القاضي المستمع، من المترافع الموضوعي، أولي كلماته لينفذ من خلالها إلي سريرته، وملاءة جعبته وجودة تقديمه، ورتبة ثقافته، ومدي احترامه لعقل المستمع، ولئن كانت بعض تلك الصفات موروثة، أو مكتسبة بحسن التربية، إلا انها تتجمل بالتماثل بعظماء المترافعين الذين أرسوا المثل العليا عن مثابرة وتجربة، لأصول المرافعة بترتيب محسوب، يأخذ الالباب، ويستحوذ الاعجاب، ويدعو سامعيها إلي طلب المزيد من الكلم المستطاب، فبيت شعر، أو آية مطابقة من آيات الذكر الحكيم، قد تغني عن ساعة من الشرح، أو تكرار لمسلمات ومفاهيم تبعث علي الملل ولا يلام القضاة علي عدم الاستماع إليه، ويعطي فرصة لخصم، يغتنمها ويديرها لصالحه. نقول ذلك، لعدم توافر ما سوف نقول به للطلاب قبل تخرجهم في كليات الحقوق، واضاعة ثلاثة أرباع وقتهم في عدم الاستفادة من السير في خطي العمالقة، قبل الممارسة الحقوقية، سواء في مراكز التأهل القضائي أو »معهد تدريب المحامين تحت التمرين« الذي لم يتم انشاؤه طبقا للمادة 82 محاماة- والاحري بتسميته »معهد تأهل المحامين«، فالتفرقة بين القصد من التأهل وبين التدرب. وفي محاضرة للمستشار الدكتور سمير ناجي، ألقاها عن آداب المرافعة، الصالحة لكل قانوني دءوب، بأن يتحلي بصفات ثلاث: أولها، »البلاغة«، وثانيها، معالج عيوب »النطق«، وثالثها، موسيقي »اللفظ«، التي تمس الوجدان قبل ان تتخلل الآذان، كما تزداد ثراء بتعلم لغة اجنبية وبخاصة الفرنسية، التي أسهمت كثيرا في تشريعاتنا المصرية! وقد ساق العديد من الامثلة التي ضربها عن رواد فرقوا بين »لغة المسموع« - لغة المرافعة الشفوية- وبين »لغة المقروء«، أي لغة الاحكام وصحف الدعاوي والمذكرات، فالأولي لغة خطابة، لها سمات كانتقاء اللفظ ذي الرنين المؤثر في الوجدان قبل ان يستقر في العقل، ومنها أقوال الاستاذ زكي عربي: »بأن الذين يضطرون إلي تحبير مرافعات قبل إلقائها بعد ان رسموها في رءوسهم، واصبحت ذات معالم واضحة، فعليهم ان يتصنعوا لغة الارتجال، حتي لايشعروا مستمعيهم بأنهم يترافعون بالقلم، وهي لغة تتميز بأنها تلقي علي السامع وجها لوجه، وربما يستعين المترافع بصوته وإشاراته، وبحركته وسكونه، وبدقة ملاحظاته، بما فيها من قوة مغناطيسية كامنة، تظاهرها سرعة الابتكار، ومواصلة الحديث بلا تردد، وقد يلجأ إلي لغة العاطفة، فالقول ينفذ إلي القلب اذا صدر من القلب. »أما محمد علي باشا علوبة، فيقسم المرافعة إلي مرحلتين. الاولي: عرض الوقائع، وفيها يكون المترافع راويا. والمرحلة الثانية: هي استنتاج الحق من الوقائع، وفيها يكون المترافع محاضرا، يخاطب العقل مباشرة، ويحذر علوبة باشا من المغالطة، ولو لمرة واحدة، فهي التي تحكم علي المرافعة بالإعدام. أين ذلك الفكر الرفيع، والتعليم المفعم بالوفاء، والارتقاء بمهنة المحاماة لصالح المتقاضين، وإراحة القضاء بالتخاطب المتكافيء، ومكافأة المشرع علي ما قدمه من ضبط للعلاقات الاجتماعية بأوسع معانيها؟ أين ذلك من المطالبة بالغاء الترخيص لمزاولة مهنة المحاماة، اللازم للعمل الشريف، عن دراية وفي جلاء، بدلا من ممارستها من الابواب الخلفية، وبلا مسوغ معتمد اكاديميا؟ أين ذلك من المطالبة بالانخفاض بمستوي الدفاع عن الجمهور المقيد بحبائبل الجهل، والمفتقر إلي الخبرة، فيجرون الشباب إلي هاوية التحايل بإسم شهادة جامعية، هي بداية لفهم القانون، وليست لممارسة مهنة المحاماة، ليجلس المطالبون علي عروش من قش، وعلي رءوسهم تيجان من صفيح؟ وهل تترك مصائر الناس لمحام تحت التمرين لمدة عامين، يحمل شهادة عرفية من مكتب محام، بلا امتحان، ليرقي لدرجة المزاولة، ويتقادم بالسنوات، بحماية قانون لم يقدر خطورة اطلاقه في ساحات المحاكم، شاردا نحو الفقر، بمستقبل قصير العمر؟ .. ارحموا هؤلاء، رحمة بهم، وبضحاياهم، بمزيد من التأهيل، وليس بالتمرين وسراب التدريب!!.. وللحديث بقية كاتب المقال رئيس الجمعية المصرية لرعاية مرضي السكر