أصر علي ان يعيش رحلته الارضية حقيقيا حقا، تتابع خطواتها علي صراط الصدق الصراح، لم يهدر وقته الثمين في استجداء الاضواء، ولم يضع شيئا من عمره المديد في تسول الشهرة أو اللهاث وراء الصيت البعيد، أو استعطاف اللمعان، وقد عرفناه طوال حياته الخصبة عزوفا عن اضواء المنصات، زاهدا في بريق الشاشات والصفحات، لذا كان يمقت التمسح في القاب الرنين الصاخب، وهالات الزيف الادبي، التي يتشبث بها المتصنعون الصاخبون، متوهمين انها ستمنحهم خلودا وبقاء، وستحلهم موقعا مرموقا في الضمير، خاصة بعد انطفاء جذوة زيفهم، وانفضاض المستفيدين من ورائهم بعد سكون عاصفتهم، وتلاشي زوابع صخبهم »الفنجانية«! هكذا كان اديب مصر الحقيقي نجيب محفوظ -الذي نحتفل هذه الايام بذكري ميلاده- يعتقد في يقين راسخ، لذا قضي عمره المديد منحنيا علي موهبته الفذة، يتعهدها، وينشغل بأمرها وحاجاتها، بعيدا عن كاذبي الموهبة الذين يشبهون الطبل الاجوف، فهم مثله يُحدثون ضجيجا مزعجا، قد يجذب الاسماع اليه قسرا، ويملأ الاجواء كرها، ويلح علي الآذان دهرا، ولكنه حتما سيُنسي أمره ولا تعلق ذكري منه بجدران الوجدان، ويظن هؤلاء الادعياء المدعون -للأسف- ان صخب طبولهم المزعجة، ورنين عملاتهم الزائفة، قادر علي ان يكسبهم قيمة ليسوا لها اهلا، وكلما ارتفع ضجيج هؤلاء، تذكرت »محفوظا« لانه النقيض البيِّن، والضد الصريح، الذي يكتسب مكانته من داخله، من ذاته المبدعة التي ملأت حياتنا ابداعا فذا ناضجا، وصنعت موهبته الخارقة حقا عوالم خصبة بالغة الحيوية، ستظل علي الرغم من انها سطور في صفحات علي الورق عالقة بالاذهان.. متشبثة بالوجدان تماما كصاحبها الحقيقي الذي مضي كجسد، وبقي كعلامة ورمز ومعني. عمرو الديب