في حفل التكريم الكبير وقف الموسيقار الشاب قائلاً: بالنسبة ل"توسكانيني" الفنان، فأنا أنحني له تقديراً وعرفاناً، أما بالنسبة لتوسكانيني الشخص والمواقف، وخلع "....." وانهال عليه. بعض من ذلك دار في مخيلتي وأنا أطالع مقال المستشار طارق البشري في جريدة الشروق، الأربعاء الماضي، الذي يري فيه مشروع الدستور حدثاً سياسياً، وليس عملاً قانونياً، وأن لجنة الخمسين أعدت مشروع دستور علي بياض، يتيح لسلطة "إنقلاب يوليو" أن تستمر وفق مشيئتها الذاتية خمس سنوات متتالية، وفي ذلك استخفاف بالإرادة الشعبية، وأن ما حدث هو انقلاب علي دستور 2012 الديمقراطي الذي لايزال قائما وسارياً، وأن رئاسة الدولة التي أصدرت قيادة الجيش في 3 يوليو قرارها "الفردي" بتعيينها، إنما تعكس المشيئة السياسية لنمط الحكم الذي قررته قيادة "انقلاب 3 يوليو العسكري"، وأن الجيش هو عمود الارتكاز الأساسي في حيازة وسائل العنف المادي، وقد صيغ وضعه في مشروع الدستور بما يجعله مستقلاً، وبما يؤسس لإحتمال الطغيان. الخلاصة أنه يدعو لرفض الدستور، ويشكك في قانونية مشروعه، ويكرر ماتردده آلة الإعلام الإخواني من مغالطات وتضليل ومراوغة. وهنا يتوجب أن نسوق عدداً من الملاحظات المنهجية: أولاها: أنا لا أقابل بين البشري والموسيقار الإيطالي الكبير "آرتورو توسكانيني- 1867-1957" كما فعل الراحل الكبير عبد الله إمام في مقدمة كتابه "الوعي المفقود" رداً علي كتاب "عودة الوعي" الذي أصدره "توفيق الحكيم" في أعقاب وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، وما أورده من مغالطات وادعاءات، حاكم فيها عصر عبد الناصر بما لم يكن فيه. ثانيها: فارق كبير بين براءة وحيادية الصياغات، وتجني ومخاتلة الدلالات ولوع الكلمات، وهذا منهج دأب عليه لا البشري وحده وإنما معه زمرة لايجاوز عدهم أصابع الكفين ممن أزلت مصالح وعطايا التنظيم الدولي للإخوان أعناقهم وكشف الغرض تهاوي مواقفهم حين أنكروا الخروج المبهر لعشرات ملايين المصريين في كل ميادين مصر، وصوروا 3 يوليو إنقلاباً، لا استجابة لإرادة شعب هو صاحب الشرعية ومصدرها، والجيش حاميها وضامنها. ولئن تدثر البشري بمسوح الفكر وحياد العلم، وراح يدس سمومه في الكلمات بنعومة، إلا أنه خانته الحصافة حين وجه سهامه لجيشنا الوطني المستهدف من تنظيم الإخوان الدولي والمخططات الصهيوأمريكية، فطفق يعظ ويسوغ الأباطيل ويطعن الوطن في أعز مايملك، فسقطت عنه أقنعة الفكر والقانون، ولكأنه الثعلب حين برز يوماً في ثياب الواعظين . ثالثها: أن الإدعاءات والمخاتلة عينها سبق أن فعلها البشري في مقالين سابقين في الشروق أيضاً في 10/22 يوليو الماضي، حين كتب مغالطاً ومزوراً: أن الصراع القائم الآن في مصر هو بين دعاة الديمقراطية والثورة والانقلاب العسكري وليس بين الإخوان ومعارضيهم"!!، وكتب أيضاً: " أن قيادة القوات المسلحة في الانقلاب الذي حدث أخيرا استغلت رصيدا شعبيا معارضا للإخوان لتسوقهم جميعا إلي تأييدها في معركة القضاء علي روح ثورة 25 يناير والديمقراطية الدستورية، ولتعود بنا إلي الوراء وإلي نظام حكم استبدادي غاشم"!!، ويالها من مراوغات وأكاذيب، ذلك بينما كانت تنظيمات الإرهاب الإخوانية تعيث حرقاً وتقتيلاً وفساداً بعرض البلاد وطولها، وكانت مصر تحت ضغوط دولية وإقليمية مجرمة وعاتية، فخرج البشري بطعنات في عمق الجرح الوطني النازف، لم يردعه فكر أو ضمير أوقانون أو باعث وطني يقدر ظرف الوطن وما يتعرض له من هجمات وتهديدات. رابعها: أما كان الأجدر بالبشري أن يلوذ بالصمت ويتواري خجلاً وعاراً بعد خطيئته الشنعاء بفرية الإنتخابات أولاً وبعدها الدستور، مخالفاً كل الأعراف والقواعد الديمقراطية التي يتباكي سيادته عليها اليوم، وتغليباً لصالح جماعة الإخوان علي مصالح الوطن، ما تسبب في تعريج مسارات الثورة وسرقتها وسقوط مئات الضحايا وضياع أعوام ثلاثة فيما لاطائل من وراءه. خامسها: في مقاله الأخير حاول البشري استدراجنا إلي مصيدة مناقشة أفكاره الإنتهازية المغرضة، فراح يناقض نفسه، ويبدي الأعذار، كما اعتاد كل فترة متنقلاً من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، ما يدل علي ذهنية متقلبة وهوي ملك عليه عقله، فلا يتذرع أحد بأن البشري ربما يكابد "حالة الشك المنهجي" كما كثيرين ممن شغلتهم قضايا الفكر والفلسفة، كأبي حامد الغزالي (1059- 1111م) في كتابه "المنقذ من الضلال" ورينيه ديكارت (1596-1650م) في كتابه "قواعد المنهج"، فمن حيث أرادا هما إعادة إنتاج الأفكار وبناء المعرفة إنطلاقا من بدهيات فلسفية مستقرة، يحاول البشري إعادة هدم ما استقر في ضميرنا الجمعي من مفاهيم وطنية ورؤي وقناعات سياسية، وصولا إلي نتائج لا تؤدي إليها مقدماتها، ليصبح البشري نفسه، المفكر والقاضي فراغاً باتساع الوطن.