في ذروة تراجع الحريات العامة وحرية التعبير والرأي، وهو ما تمثل في الفترة الأخيرة في استدعاء النيابة للناشطين السياسيين والتحقيق معهم، والتضييق علي الإعلاميين والصحفيين، الامر الذي يشكل انتكاسة كبري لبلد يفترض أنه قام بثورة، منتفضا علي مثل تلك الاساليب التي تمارس اليوم (وللأسف الشديد)، في خضم هذه الأحداث وبشكل يكاد يكون تمريراً سلسلا بلا ضوضاء إعلامية أصدر السيد وزير التعليم قراراً وزارياً يحمل رقم 88، وبتاريخ 62 مارس 3102، يجعل من مادة الفلسفة بداية من العام الدراسي القادم 3102/4102 مادة أختيارية وضمن عدد من المواد الأخري. إن هذا القرار يشكل خطورة كبيرة علي العقل المصري، بل يمكن أعتباره مؤامرة علي هذا العقل، وذلك نظراً للخصومة المعروفة لتيارات الإسلام السياسي مع الفلسفة التي تكسب الطالب التساؤل الدائم والعقلية النقدية وتقبل الآخر المختلف والتسامح، بل والتعايش معه، وهي قيم نعرف جميعاً مدي حاجتنا إليها في ظل اوضاعنا المعروفة. ويمكن أن يرد البعض بأن جعل مادة الفلسفة أختيارية لا يفيد الغاؤها، الا أن الامر الذي نعرفه بحكم الخبرة، بأنه في حكم الالغاء، ذلك ان الطلاب لا يقبلون علي اختيار ما يجهلونه، وبالتالي حكم الاختيار هنا ما هو الا جسر للوصول الي الالغاء التام فيما بعد. إن دور المعلمين والمربين - إذا خلصت نواياهم - يقتضي فرض بعض المواد فرضا علي الطلاب (خاصة في مراحلهم الدراسية ما قبل الجامعية) وليس انتظار اختيارهم الذي لن يأتي ابدا، وخاصة إذا كان الموضوع بحجم مادة دراسية تساعد وتدفع علي التفكير النقدي الحر وتعمل علي إطلاق طاقات الإبداع للعقول الشابة. لقد فوجئت كل الجهات المعنية بعقل وثقافة الأمة بهذا القرار، إذ عبرت لجنة الفلسفة في المجلس الأعلي للثقافة في بيان لها صدر أول أمس عن قلقها البالغ من هذا القرار، كما شجب قسم الفلسفة بجامعة حلوان في اجتماعه الأخير في بيان استنكر فيه القرار، ومازال القرار يحدث اصداء عميقة علي كل الاصعدة. الغريب أن هذا القرار قد جاء علي خلاف ما يدور في العالم اليوم سواء في أوروبا أم أمريكا او في دول شرق اسيا واليابان أو حتي في بعض الدول العربية التي لابد من ان نعترف بأنها سبقتنا في ميادين عديدة اليوم، لانها اختارت أن تسير مع مقتضيات العصر، وأدخلت الفلسفة حتي في ميادين الدراسات العلمية البحتة، بل وفي ظل تبسيط وإكساب القدرة علي التأمل والتفكير لتلاميذ المدارس من المراحل العمرية المبكرة التي تبدأ من ست سنوات. إن هذا القرار هو المرحلة الأولي في القضاء علي ما تمتعت به مصرنا في تاريخها الحديث والمعاصر، ألا وهو القوة الناعمة الثقافية والفنية الإبداعية، والتي لم تتكون إلا عقل تم بناؤه وصياغته في الصغر، علي مثل تلك العقلية النقدية التي أريد لها الآن في صورة هذا القرار بأن تتجفف ينابيعها وتصبح هباء منثوراً.. هل آن لنا أن نتحرك قبل أن يكون الوقت متأخراً؟