»ما من أحد منا يتأمل العام الذي مضي ويأخذ منه العبرة!« الاثنين: سنة مضت، وولدت في مجاهل الزمن سنة جديدة، وشيع الناس السنة الماضية الي قبر الزمن الرهيب، هل ماتت حقا، ام انها ستظل تنبض في وجدان التاريخ والناس الي أن يشاء الله للناس وللتاريخ بمصير آخر؟ إنها لا تموت ولن تموت إنما تنحدر في ذاكرة الزمن كائنا حيا، وإن انسحبت من الحياة الظاهرة، الي الحياة الخالدة، تماما كما ينسحب الانسان، وتماما كما تنسحب الحوادث والوقائع والكوارث من سطح الحياة الي أعماق الذاكرة الواعية في النفوس والقلوب. ان السنوات التي تمر، تعيش تجربة في صدور الناس، والسنوات التي تجيء تعيش سببا لتجربة جديدة وتطبيقاً لتجربة قديمة. جري الناس مرحاً وعبثا وهم يستقبلون العام الجديد أراقوا الخمر والزهر علي اعتابها كأنها معبود، رقصوا وغنوا وضحكوا، دقت اجراس الكنائس وضربت الدفوف وعقدت حلقات الخطيئة وحلقات الطهر، وهرول الناس كأن سياط الزمن تلهبهم في احتفالهم برأس السنة، ما من أحد منهم يذكر مسئولياته ولكنهم جميعاً يذكرون مباهجهم ونزواتهم، ويجرون منطلقين أو كالمنطلقين من كل قيد، كأنما قدوم العام الجديد أعطاهم الرخصة ان يصنعوا ما يشاؤون كأنما ولدوا من جديد مبرئين من الخطأ والخطيئة واصبحت صحفهم بيضاء. انطلق آلاف الملايين في جنة طولها الارض وعرضها السماوات، كل يريد ان يذوق الثمرة المحرمة وكأنهم يريدون أن يقولوا أن الخطيئة التي لازمتهم منذ بدء الحياة لا تزال تلازمهم حتي الآن وستظل تلازمهم إلي أن يأذن الله للحياة بنهاية. ما من أحد منهم يتأمل العام الذي مضي ويأخذ منه العبرة، ويتأمل العام الذي يطرق عليه الباب ويرسم في خاطره ووجدانه خطة عمله وما ينبغي ان يصنعه معه، إنهم يعيشون رأس السنة في غمرة من النسيان مقصودة أو غير مقصودة، ولكنها غمرة سرعان ما تذهب وتواجههم الحياة بمسئولياتها ومتاعبها وكوارثها، فكأن الاحتفال برأس السنة مجرد وقفة تفصل بين عامين ينسي الناس فيها الحياة وهي تحيط بهم من يمين ومن يسار، ينسي الناس متاعبها ومآسيها وهي خبزهم اليومي، ينسون الموت والمرض والشقاء والعذاب والحرمان، ينسون كل ما يبكي ويؤسي، ولا يذكرون الا ما فيها من مرح ولهو، ما يبهج ويسر، خدعة يخدعون بها انفسهم وهم يعرفون، ولكن لا بأس بالخدعة من عام إلي عام حتي يقوي الناس علي مواجهة الحياة، لا بأس أن نخدع أنفسنا ونراها جنة فإن الجنة لا تطول الا بعد ان ينقضي ليل اليوم الاول من السنة الجديدة فإذا دخلنا فيها يوماً آخر وثانيا وثالثاً ادركنا أنها ايام مكررة ومعادة وأن العام الجديد ليس فيه من الجديد الا الليلة التي استقبلناه بها، اما ما يليها فهي قطعة من الزمن القديم، من التاريخ القديم، من العذاب القديم، يكسو الأيام مع لمحات زائفة من الاشراق والحب والهناء مع خدعة متكررة، أن الهناء باق والسعادة باقية وهي في الواقع ليست في الإمكان او هي في الإمكان كما تريدها الحياة لمحات وسط العذاب او لهو من غير مشقة او هناء. ونحن نستقبل العام الجديد ظانين أنه سيظل بفرحته وبهجته متجدداً لا يصيبه القدم أو البلي، ولكن إن مجرد مروره يجعل الجديد يبلي والزمن كفيل به، ولكننا ننسي كلما تقادمت الايام، فنحسب ان العام الجديد سيكون خيراً من سابقه ونستعد لاستقباله بالفرحة والبهجة كأننا نغسل بهما أوتار العام الزاهية، وننسي في غمرة الهناء ما أعطانا العام المنقضي من محنة وعذاب! وهكذا تجري الحياة، خدعة وراء خدعة وأملا يغيب وراءه أمل يشرق، وبين المغيب والإشراق تمضي الحياة يوما بعد يوم وسنة بعد سنة، وجيلا بعد جيل يطرب لها الاحياء بهجة وسعادة وخيبة وشقاء، ولكنها مع ذلك قادرة أن تجذب الناس اليها فيهيمون بها حبا ولها تقديسا وهذا سرها وسحرها. إن العالم يستقبل عاماً جديداً وهو مثخن بالجراح، وكأن أنهار الدموع والدماء التي سكبها طوال العام الماضي لم تبلغ به شط الامان والراحة والرخاء، ولكن طابت نفوس الناس وامتلأت بالأمل عندما اقبل العام الجديد، وكل ما يرجونه ألا تخدعهم أباطيل السياسة وأطماع القوي الكبري التي تلعب في الخفاء بالنفوس والارواح ليس لها سوي هدف واحد هو الحصول علي مكاسب جديدة علي حساب الضعفاء والفقراء، وكلما اسرف الساسة في وعودهم ازداد الناس خوفاً واضطرابا فإن هذا معناه طبقاً لما يفعلونه دائماً أنهم سيعودون الي ارتداء ثياب الذئاب التي اعتادوا علي ارتدائها. ان العام الجديد يهل علينا ونحن لا نعلم ماذا يخبيء لنا القدر وإلي أي مصير نحن مسوقون، اضطرابات واختلافات وانقسامات وقتلي وجرحي ومشردين ام صفاء وتعاون وتوافق ومصالحه بين جميع القوي الوطنية يأخذ الجميع بها قدراً من الحرية ومن الخبز ومن العدالة الاجتماعية قدر ما تطيب به النفوس، ما من أحد يستطيع ان يجيب! كان الله في عون العالم وكتب له السلامة في عام جديد لا يعلم غيره ماذا يخبيء للناس. حوار في منتصف الليل! الثلاثاء: قالت له: ألا يكفيك ما شربت، ألا تخاف من الفضيحة.. ألا تخشي علي سمعتك.. الناس تتفرج عليك وأنت تترنح. هل نسيت انك شخصية معروفة؟؟ فضحك الرجل في سخرية وفحصها بنظرة ثاقبة وقال.. تقصدين هؤلاء السكاري الهاربين من جحيم الحياة.. ألسنا مثلهم هاربين؟؟ قالت.. أنا أحتفل برأس السنة الجديدة.. ولست هاربة!! قال.. تقولين السنة الجديدة.. أين هذه السنة؟ إنها وهم اخترعه البشر للهروب من الحياة.. كل هؤلاء الناس هاربون من بيوتهم.. من زوجاتهم.. من همومهم ومشاكلهم.. من القيود.. من الزمن!! فلم يعجب المرأة هذا الكلام.. فالتصقت به وطوقته بذراعيها وهي تقول.. هل ستحبني في العام الجديد.. كما احببتني في العام الماضي؟؟ قال وهو يكتم غيظه.. سأحبك إلي الأبد.. إلي أن أموت.. ألا يكفيك عشرين عاماً وأنت تكتمين أنفاسي.. ماذا تريدين مني بعد ذلك؟؟ وتأملته وقالت.. يبدو أنك ثملت.. وأن الخمر لعبت برأسك وأفقدتك عقلك!! ورمقها بنظرة تنم عن كراهية شديدة وقال.. ان الخمر ردت لي عقلي.. وأعادت إلي صوابي.. أشربي حتي تصبحي عاقله مثلي.. أشربي واعترفي بحقيقة مشاعرك نحوي. قولي أنك تكرهينني كما أكرهك.. تشجعي ولا تخافي!! وانطلق صوتها كالرعد حتي طغي علي صوت الموسيقي الصاخبة وقال: نعم أكرهك.. ولا أطيق النظر الي وجهك العكر.. هل تظن أنني خائفة منك!! قال.. وهل أنا الذي أطيق وجهك النحس.. منذ تزوجتك وأنا مفلس.. قالت: لأنك سكير عربيد.. تنفق كل فلوسك علي الخمر. قال.. ألم تسألي نفسك لماذا أصبحت سكيراً بعد ان تزوجتك، إنني اشرب لكي أهرب من هذا الواقع البغيض!! قالت في غيظ.. الواقع البغيض هو أنت.. ولست أنا!! قال وهو يرفع الكأس إلي فمه.. أهلاً ومرحباً بالعام الجديد ولعله يكون عام نهايتك والخلاص منك!! ونادي علي الجرسون وطلب كأسين له ولزوجته.. ونظر إليها وقال.. لماذا لا تشربين مثلي.. اشربي حتي تهربي من الواقع.. اشربي حتي الثمالة لعلك ترحميني وتفكين قيدي!! وأعلنت الساعة منتصف الليل، ودقت أثنتي عشرة دقة.. وأطفئت الأنوار وساد الظلام والسكون المكان.. فوضع الرجل كأسه جانباً.. ومال علي زوجته واحتضنها وقبلها مثل كل الناس!! الصدفة الملعونة! الخميس: هو: لم نتقابل منذ أن تخرجنا في كلية الحقوق هي: السنين تمضي بسرعة؟ هو: حدثيني عن أحوالك.. هل تزوجت؟ هي: تزوجت من طبيب معروف؟ هو: أتذكرين عندما فاتحتك في موضوع الزواج، ونحن في السنة النهائية، ولكنك اعتذرت وقلت إنك سوف تتفرغين للمحاماة!! هي: نعم. أتذكر! هو: لقد شعرت وقتها أنني جرحت وتركتك وأنا حزين وغاضب.. وكنت أتحاشي رؤيتك!! هي: ولكن الظروف تتغير!! هو: وهل أنت سعيدة في زواجك؟ هي: ليس كما كنت أتمني.. وأنت؟؟ هو: تزوجت من إحدي قريباتي.. ولكني أعيش معها مكرها.. وتمنيت لو طلقتها! هي: ولكني سمعت أنك تزوجتها عن حب.. هو: كنت شاباً لا أعرف شيئاً عن الحب والزواج!! هي (ساخرة): وأخيرآً عرفتهما! هو: حب منتصف العمر.. هو الحب الذي يتقد فيه الجمر. هي: وحب الشباب؟ هو: طاقة مكبوتة.. لهو وطيش!! هي: ولكن.. لماذا تريد أن تطلق زوجتك؟ هو: هذا ما يهمني أن تعرفيه! هي: ولماذا أنا بالذات؟ هو: لأنك الانسانة الوحيدة التي أحببتها وتمنيت أن أتزوجها.. هي: أنا الآن زوجة وأم!! هو: سحر عينيك.. صفاء روحك.. أنوثتك الطاغية.. حياتك.. قوامك الجميل.. كل هذا جعلني أتعذب وأسهر الليالي!! هي: ولكني أحب زوجي.. وأرفض أن أسمع منك هذا الغزل الرخيص!! هو: ولكنك قلت إنك غير سعيدة معه! هي: السعادة شيء والحب شيء آخر. هو: أنت تغلقين في وجهي باب الأمل.. هي: أنا لم أفتحه حتي أغلقه! هو: كانت نظراتك لي ونحن في الجامعة فيها بريق من الاعجاب.. وهذا ما شجعني علي طلب يديك. هي: كانت نظرات احترام واعزاز.. وأنت الذي أخطأت فهمها!! هو: إذن لن أراك مرة ثانية؟ هي: هل تطلب مني أن أخون زوجي..هل ترضي أن تكون لزوجتك علاقة برجل آخر..؟ هو: (متلعثماً): لا أفهم ماذا تقصدين؟ هي: حينما تشتعل النار في بيتك.. هل يمكنك أن تعيش مطمئناً؟ هو: وهل الحب نار في نظرك؟ هي:الحب الذي تتحدث عنه نار تحرق وتهدم وتدمر!! هو: حسبت أنك تسعين إلي الطلاق مثلي؟ هي: رجل يطلق زوجته بهذه البساطة ليتزوج من امرأة آخري.. غادر لا أمان له!! هو: ولكني أحبك.. وكنت دائماً الأمل الذي تمنيت أن يتحقق!! هي: أنت لا تحبني كما تتصور.. ان الذي يتكلم فيك ليس أنت.. انه الرجل الذي يحس بالجرح.. ذلك الجرح الذي يعيش في داخلك منذ رفضت الزواج منك.. والآن تحاول أن تنتصر علي حتي ترد إليك اعتبارك، وتنقذ كرامتك فيندمل الجرح ويلتئم.. يا صديقي العزيز أنصحك بأن تعود إلي زوجتك.. وتنسي أنك قابلتني! وتركها وانصرف وهو يلعن تلك الصدفة التي جمعته بها!!