مصطفى عبدالله "إلي روحه الطاهرة.. ونفسه الأبية.. وشموخه العالي.. وكرمه الزائد.. ووفائه النادر.. وفضله السابغ عليَّ.. إلي أستاذي ومعلمي.. الأستاذ الدكتور محمد أبوالأنوار".. مغزي هذا الإهداء هو أول ما لفتني في بحث الدكتوراه الذي انتهي منه زميلي محمد فاروق الشوبكي، وحرصت علي حضور مناقشته داخل حرم جامعة القاهرة في كلية دار العلوم العريقة، التي انتهت بمنحه درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف. فقد أسرني وفاء هذا الطالب النجيب لشيخه الجليل بعد رحيله عن هذه الدنيا، وحرصه علي تدوين فضله في مستهل رسالته قبل أن يتوقف أمام خليفته الصديق الدكتور عبداللطيف عبدالحليم، الذي تولي الإشراف علي هذه الرسالة الضخمة التي حملت عنوان "الحوار في القرآن الكريم.. معالمه وأنواعه.. دراسة تحليلية فنية". وأشهد أنني تعلمت الكثير، علي امتداد ساعات مناقشة هذا السفر الضخم، من خلال ملاحظات المشرف علي الرسالة ودفاعه عن الطالب، وانتقادات المناقشين: الدكتور شعبان مرسي رئيس قسم الدراسات الأدبية بدار العلوم، والدكتور عبدالمعطي صالح، أستاذ الدراسات الأدبية بقسم اللغة العربية بكلية الألسن، لتضيف متعة المناقشة إلي متعة مطالعة صفحات هذه الرسالة التي تصل إلي 570 صفحة. وقد استهدفت تعميق الوعي بحضور القرآن، وصلاحيته لكل عصر، وقدرته علي التواصل سواء الديني أو الجمالي مع الأجيال، متكئة علي رؤية عصرية، وخلفية معرفية تتمثل في تفسيرات القرآن الكريم، والدراسات البلاغية واللغوية والفكرية التي انصبت عليه. وهي تهدف إلي الكشف عن جماليات الحوار القرآني، والغوص في بنائه العميق، ومستوياته الأدائية الراقية، وإظهار دوره في القصة القرآنية.. فالباحث يري أن أهمية الحوار لا تقتصر علي النص فقط، أو علي العلاقات القائمة بين الشخصيات، وإنما يتعدي الأمر هذا إلي المتلقي؛ لأن الحوار، وإن بدا في الظاهر بين شخصين، فهو في حقيقة الأمر يمر عابراً إلي المتلقي الذي يعد بمثابة الشخص الثالث غير المرئي بين هذين الشخصين المتحاورين في موقع داخل النص، وهو الذي يجعل من دائرة الكلام دائرة مفتوحة غير منغلقة، ويعطي للحوار سمة دقيقة وثابتة.. وقد توصل الباحث إلي أن الحوار يمثل أكثر من اثنين في المائة من حجم القرآن الكريم، حيث وردت مادة "قال" 1722 مرة، وهذا يعني أن كتاب الله المعجز ركز علي الحوار باعتباره منهج حياة في زمن لم تكن الكلمة فيه سوي للقوة، وفي الوقت الذي كان الناس فيه يحتكمون إلي السلاح لفرض أفكارهم؛ جاء القرآن الكريم يعلمهم كيف يتحاورون. كما اكتشف أنه من قواعد الحوار المستمدة من القرآن أن يتم استدراج المخالف شيئًا فشيئًا من خلال تركه يعبر عما يعتقده؛ لأنه بذلك يكون قد قدم قاعدة الانطلاق التي منها نعبر إلي ما نريد الوصول إليه، هذا فضلاً عن أنه علي المحاور الجيد إعطاء الخصم مرآة يري فيها حقيقة ما يدعو إليه، مع الوضع في الاعتبار أن انتشار فكر غير سليم في المجتمع، وظهوره بحدة، ليس دالاً علي صوابه كما أنه ليس صارفا عن واجب النصيحة، ولذلك عاني الأنبياء جميعًا من فكرة محاكاة الآباء في حوارهم مع أقوامهم.. وقد توصل الباحث أيضا إلي أن القرآن يرسم من خلال آيات الحوار البعدين الفكري والنفسي للشخصية، بحيث تتوافق عناصرها، وتأتلف صفاتها بما يحقق إبراز هذين البعدين المهمين من أبعاد الشخصية الإنسانية أيا كانت، علماً بأن شخصية الرجل والمرأة في القصة القرآنية نادرًا ما يظهر فيها البعد الجسدي كالطول أو القصر، والبدانة أو النحافة؛ لأنه لا يخدم الغرض المتوخي من القصة القرآنية نفسها.