ياسر رزق استقرار القوات المسلحة واستتباب أوضاعها.. أساس استقرار الوطن واستتباب سلطة الحگم في أجواء الشارع السياسي، كانت تحوم تكهنات مستقاة من شائعات، بأن الجيش باق في السلطة ولن يتركها، وإذا تركها فلن يكون إلا لعسكري سابق، وإذا اضطر لمدني، فلن يكون هذا المدني إخوانيا. ظلت تلك التكهنات تكبر وتنمو وتتحول إلي توقعات عند البعض، ومسلمات عند البعض الآخر، حتي توارت يوم إعلان نتيجة الفائز في جولة الاعادة لانتخابات الرئاسة، ثم اختفت لحظة تسليم السلطة في احتفال الهايكستب من المجلس الأعلي للقوات المسلحة إلي الرئيس محمد مرسي بعد أدائه اليمين أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا منذ ثمانية أيام. القصد أن المجلس الأعلي التزم حرفياً بتعهده للشعب بأن يجري انتخابات رئاسية ديمقراطية نزيهة، فوقف علي نفس المسافة بين المرشحين، دون انحياز لأحد أو ضد أحد، وأوفي دون مراوغة بوعده للجماهير بأن يسلم الحكم إلي الرئيس الذي يختاره الشعب. وبعدما تسلم الرئيس الجديد محمد مرسي السلطة، ظهرت تساؤلات تدور حول مدي تقبل القوات المسلحة للرئيس الجديد حين يصبح قائداً أعلي لها، وأطلت تكهنات جديدة عن عمر شهر العسل بين الرئيس مرسي والجيش. الحق أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة خطا منذ لحظة تسليم السلطة وإلي الآن خطوات لا يمكن إغفالها تجاه الرئيس الجديد، قوبلت منه بإشارات تقدير لا يمكن تجاهلها. فحين طلب الرئيس مرسي في كلمته خلال احتفال الهايكستب من القوات المسلحة الاستمرار في البقاء بمواقعها في الشارع بعد الثلاثين من يونيو لحفظ الأمن حتي تستعيد الشرطة عافيتها، لم يتمسك المجلس الأعلي للقوات المسلحة بحرفية الإعلان الدستوري المكمل الذي ينص علي أن قرار رئيس الجمهورية باشتراك القوات المسلحة في مهام حفظ الأمن، مشروط بموافقة المجلس الأعلي، وبإصدار قانون يبين سلطات القوات المسلحة ومهامها في هذه الحالة، وحالات استخدام القوة والقبض والاحتجاز والاختصاص القضائي وحالات انتفاء المسئولية. استجاب المجلس الأعلي لتكليف الرئيس دون تحجج بنصوص الإعلان، في بادرة تقدير لرأس الدولة، وتقدير أيضا لأمانة المسئولية تجاه أمن واستقرار الوطن. ومن جانبه.. لم يدخر الرئيس في كلمته خلال الاحتفال أي عبارة تؤكد عرفانه بمكانة القوات المسلحة ودعمه لدورها ولقياداتها ولرجالها، وتعهد بتكريم قادتها من أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة في احتفال كبير. غير أن أهم الخطوات الودية التي أبدتها القوات المسلحة ومجلسها الأعلي تجاه الرئيس، ظهرت في احتفالي الكلية البحرية وكلية الدفاع الجوي يوم الخميس الماضي بتخريج دفعتين جديدتين من الضباط، ولعل كثيرين لم يلحظوا أمرين كان لهما مغزي كبير في مراسم الاحتفال: الأمر الأول: أن الضباط الجدد أدوا يمين الولاء للوطن، دون أن تحذف من القسم عبارة »مخلصا لرئيس الجمهورية«، رغم أن الغاءها كان مطلباً لضباط الجيش ولطلبة الكليات العسكرية وكذلك للمعلقين السياسيين وأصحاب الرأي منذ تنحية الرئيس السابق تحت ضغط قيادة القوات المسلحة. ولعل القيادة العامة أرادت من الابقاء علي هذه العبارة في يمين الولاء، ابداء لحسن النوايا تجاه من اختارته الجماهير لرئاسة البلاد والتعبير عن اخلاص الجيش لرئيس الجمهورية ما دام مخلصا للوطن والشعب. الأمر الثاني:أن قرار تعيين خريجي الكليتين ومن بعدهم باقي خريجي الكليات العسكرية، لم يصدر بتوقيع رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة، برغم ان المادة 35 مكرر من الإعلان الدستوري المكمل تعطي للمجلس الأعلي وحده سلطة تقرير كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة لحين إقرار الدستور الجديد. إنما صدر القرار بتوقيع الرئيس محمد مرسي رئيس الجمهورية، ولعل القصد كان تدعيم مركز الرئيس داخل القوات المسلحة حتي من قبل أن يتولي منصب القائد الأعلي لها بعد إقرار الدستور الجديد، اهتداء بكل الدساتير المعمول بها في دول العالم ومن بينها الدساتير المصرية المتعاقبة. وأتصور أن تلك الخطوات سيكون صداها عند الرئيس مرسي هو الإسراع بتكريم قادة القوات المسلحة علي حمايتها للثورة ورعايتها للانتقال الديمقراطي السلس لسلطة الحكم، وربما يكون التكريم كما اقترحت في مقال الأسبوع الماضي باستحداث وسام »نجمة مصر« معادلاً لوسام »نجمة سيناء« ومنحه لكبار القادة، وكذلك تكريم علم القوات المسلحة بمنحه وسام الجمهورية العسكري عرفانا لكل جهد بذله رجالها في الفترة الانتقالية، ومنح كل أفرادها نوط »ثورة يناير«. ولعلي أظن أن الرئيس مرسي سيكون أحرص الناس عند وضع الدستور الجديد ومن بعده، علي عدم الانتقاص من دور القوات المسلحة ولا مهامها، أو فرض قادة لها علي غير رغبة ضباطها وقياداتها، لأنه لابد يدرك أن استقرار الجيش هو أساس استقرار الوطن واستتباب سلطة الحكم. وهنا لا مفر من التطرق إلي مسألة مفصلية في تحديد مستقبل القوات المسلحة وإلي أمر بالغ الحساسية والتعقيد لكن يتعين تناوله بأقصي قدر من الصراحة والمكاشفة. لست أدعي أنني حادثت البطل الوطني المشير حسين طنطاوي في الشأن الذي سأتكلم عنه حالاً، لكني أزعم أنه لابد ساوره شعوران لحظة تسليم السلطة إلي الرئيس المنتخب. شعور له باعث شخصي بأنه آن للمقاتل الذي أمضي 65 عاما في خدمة علم مصر أن يترجل، وأن يترك المسئولية وهو علي رأس قمة السلطة، راضيا بما أداه في سبيل الوطن مقاتلاً وقائداً ثم حاكماً مؤقتاً في ظروف بالغة الصعوبة. وشعور له اعتبار عام، بأنه لابد أن يتريث قليلاً ولو علي حساب وهج اللحظة المثلي للترجل، وأن يرجيء موعد الراحة إلي وقت لاحق، لكي ينجز مهام لابد من انجازها في وجوده. أظن المشير طنطاوي رغم زهده في السلطة الذي لا يستطيع أحد أن يماري فيه، ليس زاهداً في أداء واجب يحس أنه مسئول عن القيام به. واعتقادي أنه يجد في مسألة اصدار دستور لائق بمصر يعبر عن توافق الأمة، واجبا والتزاما تعهد به للشعب، وربما لهذا حرص علي أن يعطي الإعلان الدستوري المكمل لرئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة ضمن من يعطي الحق في طلب إعادة النظر في نص أو أكثر من نصوص مشروع الدستور الجديد، إذا رأي أنها تتعارض مع أهداف الثورة ومبادئها الأساسية أو مع ما تواتر من مباديء في الدساتير المصرية السابقة. ولعلنا نذكر تأكيدات المشير طنطاوي لقيادات الأحزاب والقوي السياسية في أكثر من لقاء علي وجوب أن تعبر مواد الدستور عن اتفاق طوائف الشعب دون اقصاء، ولعلنا أيضا نذكر العبارة القاطعة التي قالها الفريق سامي عنان نائب رئيس المجلس الأعلي ورئيس الأركان لممثلي القوي السياسية بأن »مدنية الدولة خط أحمر وقضية أمن قومي«. إذا تغلب النازع الشخصي علي قرار المشير طنطاوي فقد تكون لحظة ترجله من صهوة جواد المسئولية الأولي عن القوات المسلحة، هي مناسبة تخرج الدفعة الجديدة في الكلية الحربية، أو مناسبة تكريمه وأعضاء المجلس الأعلي علي عطائهم من أجل الوطن وثورة الشعب. أما إذا تغلب عليه اعتبار الواجب، فقد يرجيء قراره إلي حين وضع الدستور الجديد، أو تسليم سلطة التشريع إلي البرلمان الجديد بعد انتخابه. في الحالتين.. لا أظن المشير طنطاوي سينزوي عن المشهد السياسي والعسكري، بل أظنه سيكون حاضراً ومؤثراً بقوة كحضور الزعيم الأفريقي مانديلا وتأثيره في بلاده بعد تركه باختياره مقعد الرئاسة. وفي الحالتين أيضا.. تظل مسئولية المشير طنطاوي تجاه مستقبل القيادة في القوات المسلحة أكبر وأخطر من أن يتركها لغيره ودون أن يحسمها في وجوده. فالقائد العام وكذلك رئيس الأركان اللذان سيقع عليهما اختيار المشير طنطاوي بالتشاور مع أعضاء المجلس الأعلي وباستلهام رغبة قيادات القوات المسلحة سيوضع علي عاتقهما أعباء جسام تتعلق بإعادة اصطفاف الجيش خلف مهمة أصلية هي الدفاع عن حدود البلاد وردع من تسول له نفسه المساس بالتراب الوطني، وتتعلق أيضا بتأمين الجيش أو بالأحري تحصينه ضد العدوي بفيروسات السياسة وميكروبات الانتماءات الحزبية، وضمان احتفاظ رجاله بانتماء وحيد لا يتزعزع هو الوطنية المصرية. وأحسب أن اختيار قائد عام ورئيس أركان جديدين سيتبعه بحكم تسلسل القيادة في أي جيش، عملية تجديد لشباب القوات المسلحة في مستوياتها القيادية علي أساس الكفاءة والمقدرة والعلم العسكري. إنني علي يقين من أن تسليم وتسلم قيادة القوات المسلحة عندما يحين أوانه من المشير حسين طنطاوي إلي القائد العام الجديد، سيكون انتقالا سلساً للمسئولية من رمز بارز للعسكرية المصرية العريقة، إلي قائد جديد يحظي باحترام وتقدير مرءوسيه وضباطه، وقادر علي أن يحفظ للقوات المسلحة تماسكها وهيبتها ونقاء انتمائها الوطني. وسيبقي المشير طنطاوي في الحياة المصرية هو مانديلا المصري، وسيظل اسمه قرين معاني الشرف والإخلاص والصدق مع الله والوطن والنفس. .. قلت وأذكِّر بأن استقرار القوات المسلحة واستتباب أوضاعها، هما أساس استقرار الوطن واستتباب سلطة الحكم.