يوسف القعيد دخلت علينا إيناس عبد الدايم وفي يدها الفلوت الخاص بها. تمسكه كأنه سلاحها. مع أنها لن تحارب به. مرسال حب وبطاقة مودة. والأهم وفرت لنا لحظات من المتعة. أكدت لي أن الفن يقاوم قسوة اللحظة. وأن الجمال مخرج من كل ما تعانيه مصر من عنف وانفلات أمني وتجاوزات لفظية وخشونة تعامل. بل إن الفن طريق المصريين للمستقبل. وجمال الفن يجعل الإنسان أكثر حباً للحياة وحرصاً عليها ورغبة في جعلها أبهي وأزهي. وصلت إيناس عبد الدايم لنهاية عزفها علي الفلوت. وقبل أن تنظر باتجاه اتساع الأعين في القاعة المبطنة بالنفوس. اللحظة عبقرية وفاتنة. ولأن عزفها كان إبداعاً خالصاً. نال التصفيق. لم يكن التصفيق عادياً. ولا نوعا من أداء الواجب. لأن عزفها كان فوق المستوي. فإن التصفيق كان فوق المستوي. استطاعت إيناس عبد الدايم أن تستنطق الفلوت. أن تستخرج منه رسالة تصل إلي وجدان وقلوب المستمعين الذين كانوا علي أتم استعداد لمواصلة السهرة في الاستماع إليها. لم يكن للتصفيق دوي فقط. ولكن تردد صوت التصفيق الأنيق المتحضر حاول أن يكون في مستوي ما قدمته إيناس من عزف فني. أعرف أنها ليست المرة الأولي لتلك العلاقة الفاتنة بين فنانة وآلتها الموسيقية. وأتمني وأحلم ألا تكون الأخيرة. وأن تمتد ليسمعها المصريون والعرب. وكل من له أذنين ويبدو مستعداً للاستماع للفن والتجاوب معه والفرح به في كل مكان من العالم. تجاوزت إيناس عبد الدايم ظلام القاعة وحاولت أن تري الناس من خلال ضوئها الداخلي. ثم يضاء المسرح. نراها وترانا. تحيي الناس ويردون التحية بأحسن منها. بذلك التصفيق الهادر. إنها لحظة مشاركة نادرة. جمعت بينها وبين جمهورها الذي جاء ليشاهدها وليستمع لعزفها النادر. ما بيننا. مثل لحظات المكاشفة مع حقيقية أوشكت أن تتوه منا والكل مشغول ببناء وطن جديد.. إن وصف عزف إيناس عبد الدايم بالجمال لا يكفي. لا بد من نحت تعبير جديد. وكلمة ترقي لمستوي اللحظة وتحتويها مثلما احتوانا عزفها الفريد. وإيمانها بما تقوم به. وصدقها الذي هو كلمة السر في كل إبداع فني حقيقي.. قال لي الأستاذ محمد حسنين هيكل - دائماً وأبداً - إن أردت أن تعرف طبيعة أي شعب من الشعوب. حاول معرفة الموسيقي فيه. لأن النغمة السائدة هي الطريق الحقيقي لمعرفة جوهر ومعدن هذا الشعب أو ذاك.. ولهذا يمكن القول أن الدكتورة إيناس عبدالدايم هي المسئولة عن البحث عن معدن شعبنا العربي وإظهاره. وأتذكر أن الدكتور سمير فرج عندما كان رئيساً للأوبرا. كان يوجه الدعوة - دائماً وأبداً - للأستاذ هيكل ليحضر عروض الأوبرا. ظُلِمت إيناس عبد الدايم مرتين. الأولي عندما كانت تستحق - عن جدارة- رئاسة أكاديمية الفنون. ومع هذا ذهب الدور لسواها. والثانية عندما كانت تستحق - عن جدارة أيضاً - رئاسة الأوبرا. وذهب الدور لسواها. وانتظرت. لا تهتم سوي بعملها وفنها ودورها. إلي أن جاء شاكر عبد الحميد. وزير الثقافة ليوليها رئاسة الأوبرا المصرية. ولست متأكداً إن كانت أول مصرية تتولي هذا الدور أم أنها الثانية بعد رتيبة الحفني. لا يفهم من كلامي أن إيناس عبد الدايم من ذلك النوع من المصريين الذي تشغله حسابات الماضي عن رؤية الحاضر. أو الحلم بالمستقبل. لذلك فهي تتمني الآن لو أن اليوم فيه أكثر من أربع وعشرين ساعة. حتي تتمكن من إنجاز ما تتصوره أهلاً بأوبرا تحمل اسم مصر وتقدم للدنيا تراث أهل مصر الموسيقي. في الصباح تكون في القاهرة. ووقت الظهر تراها في فرع الأوبرا دمنهور. وعندما يأتي الليل سيرسي بها الحل والترحال في بر مصر في أوبرا الإسكندرية.. لا تتوقف عند حدود الرحلات الداخلية. فقد عادت لتوها من صربيا حيث شاركت الأوبرا في مهرجان هناك. ثم زارت سويسرا باعتبارها مستشارة لأوركسترا النور والأمل. وهو أوركسترا مصري للكفيفات. وميزة إيناس عبد الدايم الأساسية أنها لا تدعي معرفة كل شئ. ولا امتلاك الحقيقة المطلقة. بل تعتبر نفسها في حالة تعلم مستمر. وأنها مستعدة لطلب العلم ولو في الصين حسب النصيحة القديمة والمعمرة.. ولذلك. وحسب حواراتها الصحفية القليلة المنشورة. فهي تفكر في عدة أمور لكي تضفي علي هذا الصرح التاريخي لمستها الخاصة بها. تفكر في الشباب وكيف يعرفون طريقهم إلي الأوبريا التي كنا نتصور أنها مكان الشيوخ والكبار. وهي لا تفكر في الشباب لأنهم نصف حاضرنا وكل مستقبلنا. ولكن لأنها تدرك من خلال متابعتها لما يجري في مصر أن ثمة حالة من التلوث السمعي أصابت شبابنا. وأيضاً حالة من الاغتراب الروحي الذي مر به شباب مصر في السنوات الماضية. وأيضاً تحلم بإنهاء عزلة الأوبرا عن حياة الناس. وأن النزول إلي الناس. حتي في الأحياء الشعبية مسألة مهمة لأن الارتقاء بالذوق عند الناس. يعني مواجهة القبح والقسوة والتشوه الذي أصاب الشخصية المصرية. الحاضر لم يسرقها من التراث. لذلك تفكر في تقديم ألف ليلة وليلة والأعمال الأدبية المهمة في تراثنا علي الأوبرا. ولذلك قد نشاهد في العام القادم أوبريت الليلة الكبيرة لصلاح جاهين وسيد مكاوي في الأوبرا. كذلك من المؤكد أن سيد درويش سيكون له مكانه الذي يستحقه. وكل هذا يمكن أن يصل بنا إلي أوبرا مصرية مائة في المائة. ربما كان الحلم الذي من كثرة مراودته لنا. أوشكنا أن نيأس من إمكانيات تحقيقه.