عنوان المقال مستعار من عنوان كتاب للكاتب والروائي والأديب يوسف إدريس, وهو كتاب فقر الفكر وفكر الفقر, الصادر عن دار المستقبل العربي عام1985, والذي أشار فيه إلي أن ظاهرة فقر الفكر وفكر الفقر. تؤدي إلي فقر في الحياة والإنتاج الذي ينتهي بدوره إلي فقر فكري. ووفقا لهذه الرؤية, فإن ثمة مجموعة من المعتقدات تسيطر علي أنماط التفكير السائدة في المجتمع المصري وتحدد رؤيته للحياة وتحكم تفاعلاته مع الواقع الذي يعيش فيه, بشكل يؤدي في النهاية إلي الوقوع في براثن الجمود وعدم التطوير أو ما يمكن تسميته ب'الفقر الفكري'. فالفقر لا يقتصر علي العوز المادي فقط, وإنما يتجاوز ذلك بكثير ويمتد إلي رؤية الأشياء علي غير حقيقتها والتعامل معها بشكل غير منطقي بما يؤدي إلي استفحالها وعدم طرح آليات فعالة لمعالجتها. ومن هذا المنطلق, يمكن أن نجد فقراء من الناحية المادية, لكنهم أغنياء بأفكارهم التي تساعدهم علي التطوير والتعامل بشكل جدي وعقلاني مع الواقع وتحدياته. هذا المقال ربما يذهب مذهبا آخر في النظر إلي ذات المفاهيم حتي لو لم يكن بعيدا عنها تماما; وربما كان الأقرب إلي الإيضاح هو ما أشرت إليه في مقال بعنوان'20 مليون جهاز تكييف' بالأهرام يوم21 أغسطس الماضي والذي كان جوهره أن سياسة بناء محطات الطاقة الكهربائية في مصر تقوم علي صورة بلد فقير يستهلك القليل من الطاقة. ولا يقتصر مثل هذا الأمر علي الكهرباء ولكنه يمتد إلي الطرق والإسكان والعمارة, وهي مسائل كلها تنعكس علي الميزانية التي تنفق جلها إما علي مرتبات الجهاز الحكومي أو فقراء الحكومة أو الدعم بأشكاله المختلفة التي تعطي للفقيرة السمكة وليس القدرة علي اصطيادها. وبينما كانت الصورة عن مصر الفقيرة معبرة عن فكر الفقر, فإن سياسات الإنفاق الحكومي تعبر في النهاية عن فقر في التفكير لأنه يفرط في عملية بناء الثروة المصرية من أجل سد الاحتياجات العاجلة. مناسبة الكلام هي الانتخابات المقبلة, تشريعية ورئاسية, لأن قدرا هائلا من السياسات القائمة يعود في جوهره إلي الضغط الشعبي للسير في هذا الطريق, وهو ضغط يأخذ أشكالا شتي, وربما تكون أشكالا ساخنة من المعارضة تجري في وسائل الإعلام المختلفة وبيانات المعارضة, سواء أخذت أشكالا حزبية أو حركات جماهيرية فإن جوهر السياسات التي تقترحها لا يختلف كثيرا عما يقوم به الحزب الوطني بالفعل. ولا يأتي الفارق إلا بالادعاء أن هذا أو ذاك سوف يكون أكثر كفاءة في تطبيق نفس التفكير القائم علي تصور مصر الفقيرة التي يحتاج عيالها إلي العون فكر الفقر وأن الحل هو تقديم العون والدعم مع إرساله إلي مستحقيه والذي يبدو أن هذا الحزب أو تلك الحركة أكثر كفاءة في التعرف عليهم. فقر الفكر هكذا يبقي علي حاله في ترتيب الأولويات واتخاذ القرارات وتقديم السياسات. خذ مثلا واحدا من أنماط فكر الفقر عندما ينظر إلي الدولة علي أنها دولة فقيرة في الموارد أو دولة ذات إمكانيات محدودة, وهو ما يؤشر إلي عدم وجود إدراك حقيقي لدي قطاع كبير في المجتمع لحجم المتاح من ثروة داخل الدولة, والذي تؤكده ظواهر عديدة مثل الحجم الكبير للثروة العقارية التي تحظي بها البلد, التي تسمي في بعض الأحيان ب رأس المال الميت, إلي جانب المؤشرات الاقتصادية التي تتحدث عن انخفاض معدل الفقر, وارتفاع معدلات الدخل والإنفاق لدي الأسرة المصرية, وزيادة نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي, وتصاعد دور القطاع الخاص في عملية التنمية. فقد ارتفع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من19.6% عام2008 إلي21.6% عام2010, وتكشف مؤشرات الأداء الاقتصادي خلال العام المالي2010/2009 عن تحقيق معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي يصل إلي5.3% مقارنة بمعدل4.7% خلال العام المالي السابق2009/2008, وقد شهد الربع الأخير الذي يمتد من أبريل إلي يوليو من العام المالي2010/2009 تحقيق معدل نمو قدره5.9%. كما ارتفع معدل الاستثمار إلي نحو20% عام2010/2009, فيما تراجع معدل البطالة إلي أقل من9%, بينما استمر انحسار التضخم حتي وصل متوسطه السنوي إلي11.3% في عام2010/2009, مقارنة ب16.9% عام2009/2008, وهي كلها مؤشرات تؤكد أن الدولة ليست بهذا السوء الذي تشير إليه هذه الأنماط من التفكير. ورغم أن الشائع في الكتابات والأحاديث يستند إلي وصول عدد من يعيشون تحت خط الفقر إلي21.6% من عدد السكان لتأكيد النظرية السابقة وهي أن مصر' دولة فقيرة' أو محدودة الإمكانيات, إلا أن ذلك يمكن الرد عليه بأن هذه النسبة نفسها تعني أن هناك78.4% يعيشون فوق خط الفقر, وهي نسبة ليست بسيطة, وربما تتزايد في المرحلة المقبلة بفعل زيادة معدل النمو وإجمالي الناتج المحلي, وتشير التقديرات إلي تحسن أحوال8 ملايين مواطن بفعل الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة لرفع مستوي المعيشة وتحقيق مستوي أعلي من النمو, وبقاء6 ملايين علي أحوالهم, بما يعني أن الناتج الصافي يتمثل في تحسن أحوال مليوني مواطن. فضلا عن ذلك, يبدو النمو المستمر في الاقتصاد غير الرسمي أو ما يسمي ب الاقتصاد الموازي أو الخفي البعيد عن سيطرة الدولة وغير الخاضع للضرائب, مؤشرا آخر علي حجم الثروة المتاحة داخل الدولة, حيث تصل مساهمته في الناتج المحلي إلي40%, وتقدر قيمته بحوالي400 مليار جنيه مصري بما يوزاي نحو75 مليار دولار. وكذلك تبدو المسألة بالنسبة للثروة العقارية أو ما يسمي ب رأس المال الميت, حيث تتراوح التقديرات الخاصة بهذه الثروة من تريليون جنيه أي حوالي180 مليار دولار إلي نحو700 مليار دولار, بعد أن كانت تبلغ قبل عقد من الآن نحو270 مليار دولار. وبصرف النظر عن حالة الجدل السائدة حول غني أو فقر الدولة, فإن الأفكار السائدة في المجتمع عن التعامل مع الثروة المتاحة تواجه إشكاليات عديدة بدورها, وهي نمط آخر من أنماط الفقر الفكري, فبدلا من الحديث عن تحويل أراضي الدولة إلي مشروعات استثمارية كبري تخدم عملية التنمية, تبرز علي الساحة ظواهر من نوع جديد مثل ظاهرة تسقيع الأراضي التي تعني شراء الأرض بأسعار زهيدة مع تأجيل إقامة مشروعات عليها ثم عرضها للبيع بعد مدة بأسعار فلكية. ولكن نظرية التسقيع هذه تغفل أمرين, كلاهما يعكس أنواعا من فقر الفكر: الأول أنها مرتبطة باستمرار معدلات النمو العام للاقتصاد القومي, وإلا فإن أسعار هذه الأراضي لن ترتفع أبدا, بل إنها سوف تنخفض, ومن ثم يخسر صاحبها ليس فقط الفارق بين سعر الشراء وسعر البيع, ولكن يضاف إليه خسارة الربح الذي كان سوف يحصل عليه لو أنه قام باستثمار هذه الأرض أو حتي وضع أمواله في البنوك وحصل علي فوائدها. والثاني أن تسقيع الأرض لا يعود دائما إلي رغبة صاحبها في الاستفادة من ارتفاع الأسعار, بقدر ما يعود إلي تراخي البيروقراطية في استصدار التراخيص اللازمة, بل حتي تحديد حدود الأرض والتبديل المستمر لها. والحقيقة أنه رغم الحديث المستمر والهجومي والعدواني أحيانا علي تسقيع الأراضي فإننا لا نجد إحصاء مقارنا واحدا عن مساحة الأراضي التي خصصت من قبل الدولة للاستثمار, وتلك الأراضي التي تم استثمارها بالفعل والعائد علي البلاد من حيث التوظيف والعمالة والتصدير وعائد العملات الأجنبية ونقل التكنولوجيا. وأكثر من ذلك فإننا لا نجد معلومات كثيرة عن استثمارات مطروحة بالفعل ولكنها لم تجد الأرض التي تقيم عليها الاستثمار لأسباب حكومية أو حتي اجتماعية. لكن ذلك لا يعني أن هذه الأنماط من التفكير يمكن أن تبقي مستمرة دون تغيير, فالأمور ليست ساكنة, والتغيير بدأ يطول كل القطاعات والجوانب بما فيها الجانب الديني الذي يكتسي حساسية خاصة, وهو ما يبدو جليا في ظهور جيل جديد من الدعاة يمكن تسميتهم ب الدعاة الجدد يتسمون بعدد من الصفات من أهمها حصولهم علي مستويات عالية من التعليم وانتماء معظمهم إلي أسر موسرة, لكن الأهم من ذلك, هو أنهم لا يتخاصمون مع الواقع الذي تعيش فيه الفئة المتلقية, بل يحاولون التوفيق بين القيم التي فرضها التدين والخصائص التي يتسم بها المجتمع في الوقت الحالي, ويقدمون خطابا يحبذ قيم الطموح والمنافسة والسعي إلي كسب الرزق والتوسع الاقتصادي, وتحقيق الذات, بشكل دفع عددا كبيرا من الأغنياء إلي الاستمتاع بثرواتهم, بدلا من الوقوع في براثن الثنائيات الضيقة مثل الغني والفقر, والجنة والنار, و الحياة والموت. مثل ذلك يلقي مقاومة شرسة من الفكر السلفي الذي يلقي بكل ثقله علي كل محاولات التحرر والخلاص التي تجعل للإنسان علي الأرض مهمة خلقه الله لها, وأولها العمران بكل ما يعنيه ذلك من إبداع وإعمال للعقل. لقد نقلت في مقال السبت قبل الماضي عبارة ألبرت أينشتين أنه لا يمكننا حل المشكلات بنفس طريقة التفكير التي أدت إلي وجودها في المقام الأول; وأظن أن القول يصدق هنا أيضا, وربما يطرح ذلك طريقة أخري لحساب المرشحين, والناخبين, خلال المرحلة المقبلة وتقوم علي مدي ما يقدم من أجل تغيير مصر وتنمية ثرواتها وخروج أهلها من تفكير الفقر الذي نشر الفقر بالفعل بين قدر غير قليل من أبنائها. *نقلا عن صحيفة الاهرام