بعد أن يكون الرئيس السوري بشار الأسد قد أمر وأعطى التعليمات بإغلاق باب القاعة التي جمعته بالزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في دمشق فإن الأخير سيكون قد بدأ تنفيذ التزام ووعد "البوح" الذي كان قطعه على نفسه، خاصة أنه استبق زيارته "باستدارة" سياسية في مواقفه، للسير في الخط العروبي الذي تنتهجه سوريا، وصولا إلى اعتذاره العلني الذي سمح باكتمال وساطة رأس حزب الله حسن نصر الله من أجل فتح الباب لعودة العلاقة بين دمشق وأحد أبرز حلفائها التقليديين في لبنان قبل أن كان افترق عنها وذهب بعيدا في عدائه تجاهها، معلنا الطلاق بعد الساعة الأولى التي أعقبت اغتيال "صديقه" الراحل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في 14 مارس/ آذار 2005 حتى حانت عودته في 31 مارس/ آذار 2010. المصالحة "الجنبلاطية السورية" تشمل الكثير من قول الأسرار في لقاء مفصلي لدى كل جانب الكثير مما يريد قوله للطرف الآخر. والمكاشفة ولو كانت نسبية فهي ستكون هامة وضرورية لبناء جسور الثقة المرتقبة. لا شك أن "أبا تيمور" تحدث إلى الرئيس الأسد مطولا، ولعله - وكما يقولون عنه - لم يرم كل الأوراق دفعة واحدة، وبدا للوهلة الأولى متحفظا بعض الشيء لاعتقاده أن العودة هي "مصلحة مشتركة" وليس لصالح جانب دون آخر مع الإقرار بثقل وأهمية دور "الجارة الكبيرة" في مقابل طيف لبناني سوري له مكانته، لكن بالمقابل فإن الرئيس الأسد يدرك معنى كل تفصيل في لقاء من هذا النوع. ومع فتح صفحة جديدة بين دمشق وزعيم المختارة وطي صفحة الماضي القريب فإن العلاقة يفترض أن توضع على الطريق السليم في عودة المياه إلى مجاريها السابقة وإن أخذت بعض الوقت. الإعلامي السوري منذر الشوفي - وهو أحد أبناء منطقة جبل العرب جنوبي دمشق – أعرب عن اعتقاده بأن زيارة جنبلاط تفتح صفحة جديدة في العلاقة، ولكن نتائج الزيارة قد لا تظهر سريعا بسبب إساءاته الكبيرة السابقة لسوريا وقيادتها، لكنه أشار إلى أن استقبال الأسد لجنبلاط يؤكد أن سوريا لا تشخصن العلاقات وتضع الجراح جانبا لأن الاعتبارات الوطنية والقومية تتغلب في نهاية المطاف. من جانبه، قال المحلل السياسي السوري المحامي عمران الزعبي إن "هذه الزيارة مهمة لأنها تؤكد أن سوريا باقية على ثوابتها المعيارية في انتمائها للمقاومة وحرصها على استقرار وأمن لبنان، وأن دمشق كانت البوصلة التي حكمت الأداء السياسي في السنوات السابقة". وأضاف أن "سوريا قبلت اعتذار جنبلاط واستقبلته بعد ذلك وهو الذي كان بدأ عودته التدريجية إلى حالة الرشد السياسي والخط السياسي القومي العربي منذ نهاية العام 2008 الذي يوافق الخط السياسي العام لسوريا ونهجها القومي في دعم المقاومة واعتبار المشروع الصهيوني هو الخطر على المنطقة، وهي بذلك تجدد التأكيد على ثوابتها المعروفة من قضايا المنطقة". وقال دبلوماسي عربي في دمشق - رفض الكشف عن اسمه - إن "الأمور في المنطقة تغيرت، فالخيارات السياسية ليست هي نفسها - قبل بضع سنوات – واللاعبون جميعا يعرفون ذلك، تغيرت التحالفات وتغير التوجه الدولي إزاء سوريا ولبنان، وتغيرت طرق معالجة الملفات المقلقة هنا في هذا الجزء الحساس من العالم". وتعتبر الدوائر الرسمية السورية أن مجرد حدوث الزيارة - بغض النظر عن النتائج التي ستظهر أو معرفة تفاصيل ما دار بين الأسد وجنبلاط - يعني توقف القطيعة والتي كانت بدأت منذ أواخر العام 2003 بشكل هادئ دون أن تظهر إلى العلن حتى وصولها إلى ذروتها بعد اغتيال رفيق الحريري في بيروت. ورغم أن محادثات الرجلين قد طاولت استعراض الروابط الأخوية والتاريخية التي تجمع سوريا ولبنان وأهمية تعزيز العلاقات السورية اللبنانية بما يمكنهما من مواجهة التحديات المشتركة وخدمة مصالح الشعبين وقضايا العرب الجوهرية، لن تكون عودة التعاطي على الأرجح كما كانت عندما كان جنبلاط يزور دمشق وقتما يشاء ويعرف الطريق وتفاصيله جيدا. والسبب هنا واضح، فسوريا أعلنت مررا أنها تريد "مأسسة العلاقة مع الحكومة اللبنانية"، وأكدت أن هناك طرقا وآليات جديدة لزيارات المسئولين والزعماء اللبنانيين تختلف عندما كان "الخط العسكري" ناشطا بين الجانبين. وربما لتأكيد توجهه الجديد أو لأسباب واجبة ورسمية، فإن جنبلاط وقع في الزيارة على "إشادته بمواقف الرئيس الأسد تجاه لبنان وحرصه على أمنه واستقراره، مثمنا الجهود التي قام ويقوم بها لتوطيد علاقات التعاون بين البلدين الشقيقين". كما أن الزعيم الأبرز في طائفة المسلمين الدروز في المنطقة ككل وليس فقط في لبنان - إذا جاز التعبير - يعرف قبل غيره أهمية انخراطه في خط الثامن من آذار المقاوم في لبنان، وسيعود الآخرون لتوفير ظروف التعايش التي ستجمعه من الآن فصاعدا بالتأكيد مرارا جهارا نهارا - كما يقال - على "أهمية دور المقاومة لما تمثله من ضمانة في وجه المخططات التي تقودها إسرائيل والتي تستهدف المنطقة العربية برمتها". الكاتب والإعلامي السوري فؤاد شربجي قال إن "تجربة جنبلاط وانخراطه في خيار العروبة والمشروع القومي والمقاوم، وعودته من مشروع الشرق أوسطي الجديد الذي كان سائرا به هي تجربة مهمة لمستقبل سوريا ولبنان والمنطقة كلها، خاصة إذا استفدنا من التفاصيل التي خبرها جنبلاط أثناء انخراطه السابق بمشروع الشرق الأوسط الجديد، نحن كسوريين نطوي الصفحة مع جنبلاط لنبني المستقبل ولا نقبل ما قاله حول النسيان واغتيال والده كمال جنبلاط لأننا لا نقايض". ومع "بوح" جنبلاط في دمشق، فإن الكثير من "الألغام" التي كانت معدة سابقا "للتفجير" - طبعا بالمعنى السياسي والمجازي - سيتم تفكيكها أو تفكيك ما خفي منها من أجل صنع مستقبل مشترك لا تشوبه الآلام.