نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا يملك الشعب المصري كل مؤسساته، ويقف في هذه اللحظات الفارقة باحثا عن مرجعياته الدستورية والمؤسساتية، والتي ربما يكون في صيانة أدوارها مفتاح الامل في المستقبل.. أقول هذا.. وأنا أسترجع هذا الدور التاريخي للقضاء المصري وفي مقدمته مجلس الدولة, الذي كان برموزه وأحكامه قاطرة تقدم للوطن, يصون الحريات والحقوق الدستورية, باستنارة فكرية, ورحابة ثقافية وفقهية لم تكم ترضي ببقاء الحال علي ما هو عليه بقدر ما تسعي لتغييره. وكان هذا الدور الانشائي للقواعد والمباديء التي يرسخها القضاء يصاحب النهضة الفكرية والثقافية والتطور السياسي والاجتماعي في مصر ويعد داعما ورافدا أساسيا لها. ثم أستعيد قراءة الحكم الشهير الذي أصدره مجلس الدولة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وفي ظل رياسة علامه الفقة والقانون الدكتور/ عبدالرزاق السنهوري في القضية الشهيرة لأستاذتنا د. عائشة راتب عندما تقدمت لتعيينها في منصب القاضي الإداري حيث أكد الحكم بحيثياته( أنه لا يوجد مانع شرعي ولا دستوري ولا قانوني) يحول دون تولي المرأة القضاء تاركا الأمر لادارة العدالة لبحث لحظة الملاءمة لذلك. ثم تذكرت كيف كان هذا الحكم من مجلس الدولة المصري سندا لنضال المرأة المصرية ومعها قوي الاستنارة لمدة 60 عاما سعيا لوصولها لهذا الحق الدستوري الي أن حسم القرار المجتمعي( لحظه الملاءمة) بقرار المجلس الاعلي للهيئات القضائية المختص دستوريا بالشئون المشتركة للهيئات القضائية وفقا للمادة 173 من الدستور، والذي قرر قبول تعيين المرأة في القضاء الجالس تاركا لكل هيئة قضائية إجراءاتها وفقا لنظامها الخاص. وقد كان هذا القرار هو السند لمبادرة المحكمة الدستورية العليا بما لدورها وفقا للدستور من حجيه مطلقة في مواجهة سلطات الدولة, وأفراد المجتمع بتعييني ضمن هيئة قضاتها الأجلاء منذ سبع سنوات قيام المجلس الأعلي للقضاء بتعيين 42 قاضية بالقضاء العالي منذ ثلاث سنوات وفي كافة فروعه( المدني الجنائي المحاكم الاقتصادية محاكم الأسرة) في القاهرة والاقاليم. وتشهد هذه السنوات ممارساتنا لدورنا في قضاء الحكم وسط تعاون بناء من قضاة أجلاء, وترحيب من المحامين والمتقاضين في رد حاسم علي إدعاء رفض المجتمع المصري لممارسة المرأة لهذا الحق والذي لم يثبت دليل عليه في الممارسة الفعلية طوال هذه السنوات, بما يؤكد أن المواطن المصري بحسه الحضاري لا يعنيه جنس من يجلس علي منصة القضاء رجلا كان أو امرأة بقدر ما يعنيه الوصول لحقوقه وتحقيق العدالة له.. طافت بوجداني كل هذه المعاني وأنا أتلقي في حزن ودهشة ما يجري في أوساط مجلس الدولة المصري بتاريخه العريق في الاستنارة الفقهية والقانونية, كيف يتبني بعض من أحفاد عبد الرزاق السنهوري هذا الموقف المتشدد من تولي المرأة المصرية الوظائف القضائية في مجلس الدولة؟! وكيف وعلي أي سند دستوري أو قانوني يطرح أصل الحق أو الملاءمة للاستفتاء عليه بعد مرور سبع سنوات علي قرار المجلس الأعلي للهيئات القضائية الذي شارك في اتخاذه رئيس مجلس الدولة ممثلا للهيئة في شأن مشترك للقضاء المصري؟! وكيف يسقط بعض من أبناء مجلس الدولة ورموزه حجية الحكم المقضي الصادر عن الهيئة التي يعملون بها بإعادة طرح الموقف الشرعي أو حتي الملاءمة؟؟ بعد استقرار الحق ومرور هذه السنوات. وهل تقبل التقاليد القضائية ما ورد علي لسان أحد القضاة الأجلاء بالصحف( ولم ينفه) متنازلا عن حيدة القاضي واحترام سرية المداولة وكتابة الأحكام في هيئة قضائية أخري فقط من أجل تأكيد رآيه المعارض بإدعاء فشل التجربة ضاربا عرض الحائط بحيدة ومصداقية الاستناد الي العلم اليقيني وليس الظني, وكان يكفيه للوصول اليه الاطلاع علي الجريدة الرسميه للدولة؟؟! وبالتشكيك في المصادر الأخري للتعيين في القضاء المنصوص عليها بقانون تنظيم سلطة القضاء المصري!! أعلم أن بعض ما يحدث يمثل تجليات للأزمة الثقافية والمؤسسية في المجتمع المصري, وقد طالت دوائر كنا نتصورها مازالت بعيده عن تأثيراتها,( والقاضي أيضا ابن مجتمعه), وإن ظل يحمل عبر التاريخ المشرف للقضاء المصري عبء الدور المؤثر إيجابيا في منظومة الجماعة الثقافية المصرية الداعمة للتقدم, والتي لا نتمني لها مزيدا من الانفراط. إن المرأة المصرية صانعة الرجال وحافظة الهوية تثق وهي تتوجه بحقوقها الدستورية والقانونية صوب مجلس الدولة المصري بعد أن أصابها الاحباط من أن يجاهر فرسان العدل وحراس المشروعية بهذه النزعة التمييزية بين رجال ونساء الأمة.. تتشبث بأن أحكام وتاريخ المجلس هو الذي سيدفعها للمطالبة بإعادة النظر في هذه التوصية المهدرة لحقها الدستوري في تولي القضاء الإداري جنبا إلي جنب مع الرجل أسوة بباقي الهيئات القضائية واحتراما لمبدأ المساواة درة التاج في الحقوق الدستورية التي لا تقبل القسمة علي اثنين.. * نقلا عن جريدة الاهرام المصرية