قبيل مباراة مصر والجزائر التي أقيمت في السودان صنعت أكثر من خمس أغنيات وطنية في ليلة وضحاها بعد أن ألبس بعض المنتفعين المناسبة الكروية زيا وطنيا فضفاضا أخفي وراءه سبوبة الأغاني الوطنية وسبوبة مصطلح حديث يعبر عن القيام بعمل ضعيف في أقل وقت ممكن مقابل أجر مادي ضخم . ولم يقتصر الأمر علي مبدأ السبوبة فقط, وإنما جاءت كلمات تلك الأغنيات لتصور مصر كما لو كانت شخصية ضعيفة في حاجة إلي من يربت علي كتفها بنوع من التعاطف والاستعطاف فأساءت تلك الأغنيات الضعيفة والمستضعفة إلي الوطن أكثر مما أفادته, ولم يربح من تلك السبوبة سوي صانعيها الذين انتفخت جيوبهم بالنقود التي لم يحصل عليها بإرادة حرة. صناع الأغنية الوطنية الحقيقية التي كانت لها أعظم الأثر وأنبل المقاصد في مسيرة هذا الوطن, وهذا ما يؤكده الشاعر الكبير' عبد الرحمن الأبنودي' فيشعر بحسرة شديدة علي وصول الفساد إلي الأغنيات التي كان من المفترض أن تتغزل في الوطن قائلا:' علي ما يبدو أننا فقدنا تماما التعريف الحقيقي للأغنية الوطنية, وكتاب وصناع الأغاني الآن والتي تدعي الوطنية لديهم العذر في المستوي السييء الذي يصنعون به أعمالهم ذلك لأن الأغنية الوطنية يلزمها مناخ وطني ثوري, ولما كان هذا المناخ غير متوافر الآن, ذلك المناخ الذي كتبنا فيه وشدونا بأجمل أغنيات الوطن, بداية من صلاح جاهين وعبد الرحيم منصور, وعبدالفتاح مصطفي, وزمن عبد الوهاب والموجي, والطويل, وبليغ حمدي ومحمود الشريف, انه زمن القمم الفنية التي لن تتكرر, زمن مقاومة الاستعمار, والوقوف ضد الصهيونية وبناء السد العالي, وهذه المعركة الحافلة بيننا وبين أعداء الوطن, والجنود الذين بذلوا الجهود والدم, وكان علي الشعراء أن يكونوا علي مستوي هذه الأحداث. أما الآن, فماذا لدي الأغنية الوطنية, لتشدوا به, هل ثارت أمجادنا هي كرة القدم, وذهابنا لكأس العالم, أو أننا أخذنا' علقه', فننوح علي أكتاف أمنا الغالية. لا يوجد الآن مناخ لأغنية وطنية حقيقية, وحتي الأغنيات الوطنية العظيمة مثل' يا حبيبتي يا مصر',' وفدائي',' وأحلف بسماها وبترابها',' وصورة'. أما الشاعر والكاتب الصحفي مصطفي الضمراني فيقول:' لقد كتبت أغاني وطنية عديدة منها' أقوي من الزمن' ولم أتقاضي مليما واحدا مقابلها وكذلك فعل غيري من الشعراء والملحنين والمطربين, لأننا نقدم هذه الأغنيات بدافع الحب وليس بدافع المال, أما الآن فأول ما يسأل عنه صناع الأغنية عندما يطلب منه أي عمل هو المقابل فيسألك بجرأة شديدة' هاخد كام'. ولهذا تحولت الأغنية الوطنية في مصر إلي موسم ينتظره الكتاب في بعض المناسبات التي يلبسها البعض في كثير من الأحيان الزي الوطني والأغرب من ذلك أن ما يذكر في هذه الأغنيات من كلمات وصور يضعف صورة مصر ويقدمها بمظهر ضعيف, ولا يظهر أحد من المسئولين لينهي هؤلاء عما يفعلونه, وما يقدمونه من أعمال سطحية. وأفضل من وصفوا الوطن هم من عاشوا فترة أزمات وانتصارات هذا الوطن منذ فترة النكسة وحرب الاستنزاف, ثم مشاهدة عبور السادس من أكتوبر, وكانت تلك الأغنيات تحمل الكثير من الصدق وهذا ما جعلها حيه وباقية حتي الأبد, ويستعين بها الأعلام حتي في المناسبات الرياضية. أما أغاني هذه الأيام, فهي تموت قبل أن تولد, فقد ظهرت أكثر من ألف أغنيه خلال العشر سنوات الماضية, ولا أحد يتذكر شيئا منها لأنها تفتقر إلي الصدق. أما الموسيقار' حلمي بكر' فيري أن الأوراق الفنية اختلطت قائلا:' للأسف الشديد لم نعد نستطيع أن نفرق بين الانفعال في حب مصر, وبين الغناء إليها, وأري أن كثرة الأغاني يبعدنا عن القضية ويهونها, وخصوصا وأن كل من' هب ودب' يغني للوطن, وهؤلاء النكرات من الفنانين يستغلون تلك الفرص لتحقيق شهره لم يكونوا ليحلموا بها دون أن يمتلكون أي أهداف وطنيه من وراء ما يقدمون. وما يعرض هذه الأيام من أغاني يعتبرها أصحابها وطنيه, هي لا ترقي لمستوي الأطفال عندما تظهر مصر وكأنها طفل يحتاج الي من يحن عليه ويعطف به ويرأف بحاله. ولتفاهة هذه الأغنيات فإنها تستخدم في كثير من الإعلانات التجارية للترويج لسلع استهلاكية, وكل هذا باستخدام اسم مصر الكبير, الذي يتمسح فيه النكرات بحثا عن الشهرة, ولأن أهدافهم شخصيه فان أغنياتهم لا تدوم في آذان المستمع لأن ما يخرج من القلب يذهب مباشرة إلي قلوب الآخرين, وما يخرج من' خناقة' كما يحدث الآن مع تلك الأغنيات, يذهب إلي القمامة التي هي المكان الطبيعي لمثل هذه الأعمال التافهة. ويري الشاعر' محمد حمزة' أن الأغنية الوطنية يجب أن تتزامن مع مناسبة وطنيه حقيقية فيقول' أنا لست ضد الجيل الجديد, ولكن كل الأغاني التي سمعتها هذه الأيام لا يمكن أن تتصف بالوطنية, فالأغنية الوطنية لا تكتب بقرار مسبق, فعندما كتبت أغنية' يا حبيبتي يا مصر' كانت في فترة الاستنزاف وكانت المناسبة هي التي دفعتني لكتابة هذه الأغنيات, وكان لها تأثير في شحن الشعب المصري وجنوده في جبهات القتال, ولا أري في مباراة كرة قدم أي مناسبة لمثل هذه الأغنيات, وإنما محاوله إضفاء الصفة الوطنية علي هذه المناسبة هو تقليل من شأن مصر ومن قيمتها, وما يحدث الآن هو استغلال للحدث لتسويق الأغنيات, وسعيا وراء الشهرة والظهور الإعلامي. وجيلنا عندما قام بصناعة الأغنيات الوطنية, لم يكن بتكليف من أحد بكتابتها ولم نحصل علي مقابل مادي لما قدمنا, ولم نكن نريد هذا المقابل المادي إن وجد, أما الآن فلا يوجد مطرب أو ملحن أو شاعر لا يتقاضي أجرا عما يقدمه, حتي ولو كانت أغنية لمصر. وهذا أيضا ما يؤكده الشاعر عمر بطيشة بقوله:' أنا ضد استخدام الأغاني الوطنية في المناسبات الوطنية, وهذا مبدأ دولي قررته الفيفا من قبل مؤكدة علي عدم الربط بين السياسة وكرة القدم ويضيف الإعلامي و الشاعر عمر بطيشه حول نوعية الغاني الوطنية التي كتبت خصيصا لهذه المناسبة:' لقد فوجئت بكلمات تلك الأغاني وما تصويرها للوطن لشخص يستحق منا العطف, وهذا شئ لا يليق بشعب متحضر, ويمتلك خبرات طويلة في الإعلام, وبأول دولة في الشرق الأوسط تمتلك محطة إذاعية. وأود أن أقول لهؤلاء كفاكم وكفانا, فهم لا يسعون بهذه الغنيات إلا إلي الظهور الإعلامي, وركوب المناسبات لتحقيق أغرضهم الشخصية من شهرة لا يستحقونها,بسيرهم في' زفة' من العبث والتخلف لا يليقان بتاريخ مصر وحضارتها. أما الموسيقار محمد نوح يعبر عن رفضه لكل ما يحدث بكلمات قليلة قائلا:' أنا لا استمع إلي مثل هذه الأغنيات لأنها بأصوات مخنثة,ولا تعبر عن وطننا الحقيقي, ومن يكتبون هذه الأغنيات لا يعلمون شيئا عن التاريخ, وإنما يأكلون عيش من كلام' فارغ' يمتلئ به أغنياتهم, فمصر العظيمة لا توجد في كرة لا تتجاوز مساحتها سنتيمترات قليلة'.