أصبح الحديث عن الفساد والشفافية والمساءلة من الأحاديث الدارجة في الحوارات العامة والعناوين الصحفية اليومية, بل العامل المشترك الأعظم في معظم اللقاءات والمنتديات الفكرية والسياسية التي عقدت علي مدي السنوات الماضية, سواء في المحافل الدولية أو المصرية. وبل وتحولت هذه الموضوعات من هاجس وطني داخلي إلي قضية عامة ودولية, وذلك مع ازدياد العولمة علي الصعيد الاقتصادي العالمي وانفتاح معظم الاقتصادات العالمية, ناهيك عما حدث بالأسواق المالية العالمية من أزمات, إذ يري الكثيرون, ونحن منهم, أن الفساد لعب دورا مهما في ولادة الأزمة وتعميقها. وهكذا أصبح الفساد ظاهرة عالمية ومجتمعية معقدة ذات أبعاد متعددة سياسية وثقافية وأخلاقية وقانونية, وتنوعت أشكاله بشدة بين العمولات والرشاوي والتهرب الضريبي وأيضا التهريب الجمركي وتهريب الأموال أو إفشاء الأسرار, ناهيك عن الوساطة والمحسوبية أو تحريف سلطة ما لفائدة خدمة مصالح خاصة, سواء تعلق الأمر بسلطة سياسية أو إدارية أو اقتصادية. وأيا ما كان الرأي فإننا نتفق مع ما ذهب إليه المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية العالمية الذي يري أن الفساد ليس كارثة طبيعية لا فكاك منها, بل هو عملية منظمة تهدف إلي سلب الفرص من الرجال والنساء والأطفال العاجزين عن حماية أنفسهم, بالإضافة إلي أنه لا يمكننا القول بأن الفساد هو ظاهرة اجتماعية واقعة حتما عبر الزمان والمكان أو أن المجتمعات متساوية في نصيبها من هذه الظاهرة. من هذا المنطلق تأتي أهمية المؤتمر الثالث للدول الأطراف الموقعة علي اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد الذي عقد بالعاصمة القطرية الدوحة, ليس فقط كنتيجة لزيادة عدد البلدان الموقعة والمصدقة علي الاتفاقية الذي وصل إلي141 دولة, ولكن أيضا نتيجة للقضايا المهمة التي تناولتها المناقشات والمفاوضات الشاقة التي دارت علي مدي أسبوع كامل, وسبقتها أعمال تحضيرية خلال العامين الماضيين. واشتملت علي أمور عديدة ومعقدة للغاية مثل استرداد الأموال المنهوبة من الدول أو كيفية ضمان النزاهة في المشتريات الحكومية ومنع تضارب المصالح ومحاربة الرشوة وتعزيز حرية تداول المعلومات... إلخ. إذ إن كل قضية من هذه القضايا تصطدم بالعديد من المعوقات والمشكلات سواء تمثل ذلك في اختلاف البيئة القانونية والتشريعية للدول أو اختلاف النظم الرقابية والسياسية, وصعوبات التوصل إلي حلول مشتركة لمواءمة التشريعات والقوانين المحلية مع الاتفاقية, خاصة في ظل الحفاظ علي مبدأي سيادة الدول وعدم التدخل في الشئون الداخلية, وإن كان البعض يري ضرورة الترويج للاتفاقية باعتبارها أساسا قانونيا للتعاون الدولي, لاسيما في ضوء عدد من الأحكام الابتكارية التي تسمح مثلا باستبعاد مبدأ سرية الحسابات المصرفية, أو استرداد الموجودات المتصلة بالفساد وحجزها ومصادرتها, خاصة أن الجناة أصبحوا يستفيدون من التطورات التكنولوجية والاتصالات, مما جعل من الصعوبة بمكان حصر العملية القانونية في نطاق الحدود الداخلية للدول فقط. ولكن أهم هذه القضايا علي الإطلاق تتمثل في كيفية التوصل إلي آلية مشتركة لتفعيل اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد, خاصة بعد أن فشل المؤتمران السابقان( الأردن عام2006, وإندونيسيا عام2008) في التوصل إلي هذه الآلية, وذلك تطبيقا للمادة الثالثة والستين التي أشارت إلي ضرورة السعي نحو إيجاد آلية تنفيذية تمكن الأطراف الموقعة علي محاربة الفساد وتعزيز سيادة القانون وضمان الشفافية. وترجع الصعوبة في ذلك إلي أنها المرة الأولي التي تقوم دول بمتابعة دول أخري, وذلك علي العكس مما يحدث في المؤسسات الدولية الأخري مثل صندوق النقد والبنك الدوليين, حيث يقوم خبراء هذه المؤسسات بكتابة التقارير الخاصة بالدول, أما الآلية الجديدة فهي تعتمد علي مراقبة الدول لبعضها البعض. مع ملاحظة أن الغرض هنا هو متابعة مدي التزام الدولة بتطبيق الاتفاقية فقط, وبالتالي فلا علاقة لها بوضع الفساد في الدولة, وذلك مع تسليمنا الكامل بالعلاقة العضوية بين الإثنين. وفي هذا السياق قامت سكرتارية الأممالمتحدة بعمل استبيان ذاتي وطوعي للدول لمعرفة إلي أي مدي تم الالتزام ببنود الاتفاقية, وحصلت علي تقارير من77 دولة( بنسبة57% من الدول الموقعة) اتضح منها اختلاف التطبيق بين الدول وبعضها البعض, مع صعوبات في تطبيق بعض المواد نتيجة للأوضاع القانونية السائدة, أو الحاجة إلي دعم فني أو مساعدات قانونية وغيرها من الأمور, وهكذا أضحي من الضروري العمل علي إيجاد آلية مشتركة لمتابعة التنفيذ. وبعد مفاوضات شاقة ومناقشات مستفيضة للغاية نجح المؤتمر في الخروج بمشروع كامل للآلية, وذلك بعد أن اتفق الجميع علي ضرورة أن تتسم الآلية بالفعالية والموضوعية والشفافية والحياد, شريطة ألا تستخدم كأداة للتدخل في الشئون الداخلية للدول, خاصة أنها آلية حكومية, وبالتالي ينبغي ألا تترتب عليها أية درجات من الترتيب التصنيفي للدول, مثلما يتم في بعض المؤسسات الدولية مثل تقرير منظمة الشفافية الدولية, قبل أن يعتذر معد المؤشر عن الأخطاء المنهجية والعلمية التي شابت هذا المؤتمر وبمقتضاها أعلن استقالته من المنظمة. من هذا المنطلق اتفق الجميع علي ضرورة أن تكون الآلية فرصة لتبادل الخبرات الإيجابية بين الدول وكذلك إظهار التحديات التي تواجهها في سبيل تنفيذ الاتفاقية. عموما فقد جاء الاتفاق مراعيا لجميع هذه الأمور, فضلا عن تأكيده سيادة الدول وفقا للمادة الرابعة من الاتفاقية, وخلص إلي عدد من النقاط المهمة منها ضرورة أن يتم تطبيق الآلية علي مختلف الأطراف دون استثناء وذلك خلال دورة مدتها خمس سنوات علي أن يتم اختيار الدول عن طريق القرعة, مع مراعاة الأوضاع الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية. ولذلك نصت الآلية علي أن تكون إحدي الدول التي ستقوم بالمراجعة من بلدان الإقليم الخاص بالدولة التي تتم مراجعتها. كما أجازت الآلية للدولة الحق في رفض نتيجة القرعة مرتين فقط, إلا في حالات استثنائية فإنها تتجاوز ذلك. وتتم هذه المراجعة علي مرحلتين, الأولي تركز علي مدي التزام الدولة بتنفيذ الفصلين الثالث والرابع من الاتفاقية, والثانية تركز علي الفصلين الثاني والخامس, وذلك باستخدام جميع الأدوات والأساليب الممكنة. كما يمكن في حال موافقة الدولة, القيام بزيارات ميدانية لاستكمال النقص في البيانات والمعلومات الرسمية. كما تم الاتفاق علي أن يتم نشر ملخص تنفيذي للتقرير ويوضع ضمن الوثائق الرسمية للأمم المتحدة, ويظل التقرير سريا ولا يجوز نشره. وبهذا الاتفاق تكون الدولة قد انتقلت نقلة موضوعية نحو جعل مكافحة الفساد جزءا لا يتجزأ من سياستها المعتمدة في مجال منع الجريمة, وبالتالي الانتقال من ثقافة قبول الفساد إلي ثقافة مغايرة تنبذ الفساد وتدينه, وهي مرحلة شاقة وطويلة تقوم علي الارتقاء بمستوي الوعي العام عن طريق التوعية المستمرة ووضع مناهج تدريبية وتعليمية مع تنقية القوانين المحلية مما يعوق هذه العملية. وعلي الرغم من أن مصر قد قطعت شوطا لا بأس به في هذه المجالات, فإن هناك الكثير مما يحتاج إلي العمل وبسرعة, فمن الضروري العمل علي وضع أطر جديدة للتصدي الحازم لها علي رأسها شفافية المالية العامة, ووضع قوانين تتيح حرية تداول المعلومات وتحسين عمليات المشتريات الحكومية, وكل هذه الإجراءات تتطلب المزيد من الصلاحيات للجنة الشفافية والنزاهة باعتبارها الجهة المنوط بها هذه الأمور. نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية