الوقاية خير من العلاج. حكمة ثمينة شائعة نذكرها حينا وننساها حينا آخر ونتردد في الأخذ بها أحيانا. وكثيرا مايكون هذا التردد مكلفا. وقد تكون هذه التكلفة أفدح مما نتصور في بعض الحالات. وهذا هو ماينبغي ان ننتبه اليه مع اقتراب موعد العام الدراسي الجديد متزامنا مع احتمال ازدياد شراسة فيروس أنفلونزا( اتش1 إن1) وانتشاره. والعبرة لمن يعتبر حكمة أخري لاتقل قيمتها عن سابقتها وهي تنطبق علي اولي العقل وأصحاب البصيرة. وتشتد حاجتنا إليها, بدورها, عندما يدهمنا خطر يمكن تجنبه او مواجهته إذا استوعبنا الدروس من تجاربنا أوخبرات غيرنا, واستخلصنا منها العبرة. ولنا في تجربة بلاد مجاورة بدأ العام الدراسي فيها مع بداية الشهر الجاري عبرة وعظة انتشر الفيروس في عدد متزايد من المدارس فأسرعت السلطات الي غلقها. لم تعتبر حكومات هذه البلاد بما حدث في المكسيك والولايات المتحدة, خلال الموجة الأولي لانتشار الفيروس, عندما كانت المدارس هي وسيطه المفضل وبيئته الأكثر ملاءمة للتوسع. ولذلك فليست عبرة واحدة تلك التي يمكن ان نعتبر بها, وإنما عبر نراها أينما ولينا وجوهنا. ولكن لماذا نذهب بعيدا ولدينا مايصح ان يكون عبرة لأصحاب العقول. فقد انتشر الفيروس في نادي سبورتنج الرياضي بالاسكندرية, بالرغم من انه مكان مفتوح متجدد الهواء في معظمه فما بالنا بمدارس مغلقة مكتظة أغلبيتها الساحقة بالطلاب مرتفعة كثافتها الي مستوي يبعث علي القلق في الظروف العادية وليس فقط في حالة وجود فيروس يهدد بانتشار وبائي وإذا كان وزير الصحة شخصيا يتوقع ان تظهر حالات اصابة بالفيروس منذ اليوم الاول في العام الدراسي, فليس منطقيا ان يكون هناك خيار الا ارجاء الدراسة الي ان يتراجع الخطر الذي يوجد توافق عام بين المختصين علي انه يتركز في شهور الخريف ومعظم فترة الشتاء. فهذا هو الخيار الوحيد العاقل, وليس فقط المنطقي, في مجتمع يفتقد أبسط مقومات الثقافة الصحية وفي نظام تعليمي يفتقر الي الامكانات الضرورية لتقليل حالات العدوي والسيطرة عليها. فكثير من مدارسنا تعتبر بيئة صديقة لهذا الفيروس السريع الانتشار ومحيطا مواتيا بل نموذجيا للعدوي الجماعية. وتبدو نصيحة غسل اليدين بالماء والصابون طول الوقت أقرب الي نكتة حين يتعلق الأمر بمثل هذه المدارس. فبافتراض انك وجدت صابونا, قد لايتوفر الماء وإذا وجدت ماء, قد لا تستطيع استخدامه لأن الصنبور مكسور او مخلوع او عصي علي التشغيل. ونحن نخدع أنفسنا عندما نتصور امكان الحد من التكدس الشديد وتقليل الكثافة في الفصول. ويعرف من يتحدثون عن الاخذ بنظام الدراسة علي فترتين او اكثر أن الإمكانات البشرية لن تفي بالحد الأدني من متطلباته, ليس فقط بالنسبة الي المدرسين ولكن ايضا علي صعيد الإداريين وغيرهم من العاملين الذين سيزداد العبء عليهم حتي في ظل نظام الفترة الواحدة. وفي غياب ثقافة صحية كافية في المجتمع, وفي ظل ميل عام الي اداء العمل بقليل من الجهد وكثير من اللامبالاة, يحتاج رفع مستوي النظافة نسبيا الي نفقات هائلة وخصوصا حين يتطلب الأمر الاعتماد علي شركات تعمل في هذا المجال. ولان هذا ليس الا بندا واحدا في لائحة متطلبات واسعة تحتاج بنودها كلها الي موارد, يبدو المبلغ الذي خصصه صندوق دعم المشروعات التعليمية لمساعدة المدرس في مكافحة انتشار الفيروس(40 مليون جنيه) بمثابة فكاهة اخري فهذا يعني تخصيص اقل من ثلاثة جنيهات للطالب في المتوسط ويبدو أننا ضمن مايغيب عنا, ضخامة عدد الطلاب في مراحل التعليم قبل الجامعي. وإذا كانت تجارب بلاد مجاورة يقل عدد طلاب هذه المراحل فيها مجتمعة عن تلاميذ الصف الخامس الابتدائي مثلا عندنا قد أظهرت انتشار الفيروس منذ الأيام الأولي للعام الدراسي, فكيف تكون حالنا مع اكثر من15 مليون طالب. وهذا فضلا عن انخفاض نعرفه جيدا في كفاءة الجهاز الاداري العام فمستوي الاداء في هذا الجهاز اقل من ان يوفر الشروط اللازمة لتنفيذ خطة طموحة لضمان المعدل المعقول من النظافة حتي اذا امكن توفير متطلباتها المالية. فلا مجال لحديث جدي عن نظافة معقولة, وليست رفيعة المستوي, بدون اصلاح دورات المياه في المدارس وتوفير صيانة يومية صارمة لها حتي لاتكون ظهيرا للفصول المكدسة في نشرالعدوي. أما هذه الفصول فهي تحتاج الي تطهير يومي لاتراخي فيه ولاتأخير.وليس هذا الا نذرا يسيرا مما هو اكثر من ضروري لتجنب كارثة صحية عامة في حالة بدء العام الدراسي في الوقت الذي يستعد الفيروس لشن هجومه الضاري, وإذا أضفنا إلي ذلك عدم كفاية مخزون مصل مكافحة هذا الفيروس, يصبح تأجيل الدراسة هو الخيار الوحيد العاقل. فوفقا للبيانات الرسمية, يوجد في مصر الان حوالي مليون عبوة من هذا المصل. وسيصلها في الشهر القادم80 ألف عبوة هي دفعة اولي مما تم التعاقد عليه. ويعني ذلك ضرورة بذل الجهد كله لتجنب زيادة الإصابات علي هذا العدد ولايمكن لاي جهد ان ينجح في ذلك في حالة توجه ملايين الطلاب الي المدارس في ظروف ترجح سرعة انتشار العدوي بينهم, ومنهم الي اهلهم وأقربائهم وجيرانهم, وكذلك اليهم من هؤلاء الذين سيعودون من الحج بعد أسابيع في ذروة انتشار الفيروس. والحال أن عدم تأجيل بدء العام الدراسي قد يجعل السيناريو الأسوأ قريبا, وهو الذي يفترض ان يكون ابعد الاحتمالات. وفي هذا السيناريو, حسبما توقع وزير الصحة, يصيب الفيروس16 مليونا, أي20 في المائة من المصريين. وهذا هو المعدل الذي توقعته منظمة الصحة العالمية عندما حذرت من أن نسبة المصابين قد تصل الي20 في المائة من سكان العالم. ولذلك فليس هناك مبرر لمخاطرة هائلة بهذا الحجم, خصوصا ان تأجيل بدء العام الدراسي لايحمل خسارة حتي إذا أرجئ إلي آخر فبراير القادم. ففي الإمكان تعويض هذه الأشهر الخمسة من خلال مد الدراسة الي نهاية يوليو2010, وضغط المناهج لتدرس في خمسة أشهر بدلا من سبعة. وهذه مهمة يسيرة يمكن إنجازها عندما نستثمر فترة التأجيل في الإعداد لها. وإذا كان هناك من يخشي ردود فعل شعبية غاضبة علي قرار تأجيل الدراسة, فهو لايعرف ان المدرسة كانت مهددة بأن تصبح هامشية في نظامنا التعليمي قبل سنوات قليلة. فقد جاء علينا وقت كان قريبا ازداد فيه الميل لدي الطلاب وأولياء أمورهم إلي التعامل مع المدرسة باعتبارها جهة قيد وامتحان لا أكثر, قبل ان تنجح وزارة التعليم في إعادة الثقة فيها بدرجة ما. ولذلك كله, ربما لايختلف اثنان يؤمنان بأن الوقاية خير من العلاج ويعتبران بالتجارب والخبرات علي أن تأجيل الدراسة ضرورة لابديل عنها ولا خيار غيرها. *الأهرام