زيارة بينيديكت السادس عشر للأراضي المقدسة في الأردن وفلسطين في الفترة من الثامن من الشهر وتستمر حتى 15 منه الحالي هي “الحج” الديني، فالخليفة ال 265 للكرسي الرسولي في روما الألماني الذي ولد باسم جوزيف ألويس راتزينغر لم يتلق دعوة رسمية من الحكومات الثلاث في الأردن وفلسطين و”إسرائيل”، لكن لقاءاته المقررة مع قادتها والصراع السياسي الدموي الطاحن على الوجود وعلى الحدود في المنطقة يجعل من المستحيل لرحلة الحج البابوي إلا أن تكون سياسية، كما أن حصر المسؤولية عن تنسيق زيارته بوزارات السياحة الثلاث قد حول الحبر الأعظم إلى جائزة سياحية كبرى يبذل وزير السياحة “الإسرائيلي” بخاصة جهده لاستغلالها تجارياً إلى الحد الأقصى في رمزية تذكر بالصراع الأزلي بين الروح وبين المادة، بقدر ما تذكر بشخصية “شيلوك” المسرحية التي خلدها وليم شكسبير كما ذكرت جريدة دار الخليج الاماراتية. يقول الفاتيكان إن ثمانين في المائة من المقدسات في الأراضي المقدسة مسيحية وهي جميعها تقريبا موجودة في فلسطين، باستثناء “المغطس” الذي تعمد فيه المسيح والذي اعتمده الفاتيكان على الشاطئ الأردني من نهر الأردن بينما كنائس أخرى ما زالت ترى موقعه على الجانب الغربي من النهر، ومثل كل الكنائس الأخرى تعتبر الكنيسة الكاثوليكية القدس العاصمة الروحية “الوحيدة” للمسيحية والمسيحيين وإن كانت عاصمتها الإدارية في روما، ولذلك فإنها معنية مباشرة بالجهود الحثيثة التي تبذلها دولة الاحتلال “الإسرائيلي” والمنظمات اليهودية العالمية والحركة الصهيونية لتهويد المدينة . ويلاحظ هنا أن الدعاية “الإسرائيلية” تحاول جاهدة تغييب هذه الحقيقة والخلاف اليهودي المسيحي العميق حولها وبسببها عن وعي الرأي العام المسيحي في العالم، وتركز بدلا من ذلك على الخلاف اليهودي الإسلامي لأنها ترى في وجود العاصمة الروحية للإسلام في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة نقطة ضعف إعلامية تعزز الادعاء اليهودي بأن القدس كانت دائما العاصمة الروحية “الوحيدة” لليهودية متجاهلة حقيقة كون القدس عاصمة روحية للإسلام باعتبارها مسرى النبي محمد ومعراجه، ومتجاهلة أيضا حقيقة عدم وجود أي مكان مادي مقدس لليهود فيها مثل كنيسة القيامة أو المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، اللهم باستثناء حائط البراق الذي سمح التسامح الإسلامي والاستهتار السياسي معاً لليهود بالصلاة فيه ليتحول إلى “حائط المبكى” وإلى المكان المقدس الوحيد “الموجود” لليهود في بيت المقدس . إن استقبال البابا لأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى في الفاتيكان يوم الجمعة الماضي وتوقيع مذكرة تفاهم بين الجانبين في اليوم السابق، كانا أحدث مؤشر إلى أن أبواب الفاتيكان ما زالت كما كانت مفتوحة أمام الدبلوماسية العربية، التي يقيم الفاتيكان علاقات مع معظم دولها، غير أن دبلوماسية الفاتيكان تبدو ما زالت أسيرة ضغوط خارجية وعوامل ذاتية تمنعها من الخروج الصريح على الملأ بموقف يحررها من محاولة البقاء على الحياد بين حليف عربي إسلامي يمد أياديه لها لإنقاذ العاصمة الروحية للمسيحية، وبين دولة الاحتلال “الإسرائيلي” التي تسعى حثيثا لاحتكار القدس عاصمة روحية وسياسية لها فقط . لا بل إن الفاتيكان يبدو أكثر اهتماما بافتعال أسباب تجعل أي تحالف ممكن وواقعي كهذا أبعد منالا، كما يفهم من تصريحات البابا الزائر عام 2006 التي اعتبرها المسلمون مسيئة لدينهم الحنيف، وكما يفهم من استنكاف البابا عن الاعتذار عنها حتى الآن كما طالبه زكي بني أرشيد الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن مؤخرا عشية زيارته . إن “تسويغ” البابا لإساءته للمسلمين بأنه كان “يقتبس” من نص تاريخي ليس كافيا كاعتذار لهم، خصوصا في ضوء سابقة “اعتذار” الفاتيكان لليهود . فهل يفاجئنا قداسته خلال زيارته الحالية التي سيجتمع أثناءها مع قادة دينيين مسلمين ويزور الحرم القدسي الشريف بإسقاط هذه العقبة المستجدة أمام تعاون مسيحي إسلامي أفضل سينعكس بالتأكيد إيجابا على حماية المقدسات المشتركة الخاضعة للاحتلال، وكذلك على “الوجود المسيحي” في المنطقة؟ والمفارقة اللافتة للنظر هنا أن البابا الحالي مثل سلفيه يعلن أن من أهداف حجه الحفاظ على ما تبقى من “الوجود المسيحي” في الأراضي المقدسة، متجاهلا الحقيقة التاريخية أن هذا الوجود قد استمر بفضل حاضنته العربية والإسلامية فقط في وقت غاب فيه الفاتيكان والكاثوليكية عن المنطقة طوال ثمانية قرون من الزمن تقريبا منذ نهاية حروب الفرنجة (كما سماها المؤرخون العرب والمسلمون) أو الحروب الصليبية (حسب المؤرخين الأوروبيين والغربيين) على بلاد العرب والمسلمين، وأن هذا الوجود قد بدأ يتعرض للتهديد فعلا أولا بسيطرة الاستعمار الغربي الأوروبي على الوطن العربي وتجزئته، ثم ثانيا بتبني هذا الاستعمار للمشروع الصهيوني في فلسطين الذي تحول إلى دولة ما زالت الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة ووريثها الأمريكي هي الضامن ليس فقط لأمنها، بل ولأمن احتلالها وتوسعها الاستيطاني أيضا . وهدف آخر معلن لزيارة قداسته هو الحث على السلام والمصالحة . وهذه في جوهرها دعوة سياسية تنفي الصفة الدينية للحج البابوي المعلن . صحيح أن البابا لم يأت بدعوة رسمية من القيادات السياسية المعنية، بل جاءت الدعوة من مجمع المطارنة ومني شخصيا، كما تلقى دعوة من السلطات المدنية المختلفة في الأردن و”إسرائيل” والأراضي الفلسطينية، كما قال المطران فؤاد الطوال، مطران الكاثوليك في الأردن وفلسطين و”إسرائيل”، الذي استدرك قائلا مع ذلك: “يجب ألا نخدع أنفسنا: يوجد بعد سياسي مائة في المائة . . . فنحن هنا نتنفس سياسة، أوكسيجيننا هو السياسة” .