الانطباع العام المتداول عن العراقي أنه إنسان جاد، أو حزين (ويُستشهد على ذلك بالأغاني العراقية التي تكاد تخلو من أية همسة فرح!). ويزيد البعض، وهم يسجلون انطباعاتهم عن هذا الانسان، فيجدون أنه إذا «انتشى» راح يبحث عن سبب يبكيه!... ويضيفون ان تاريخه وتاريخ بلده جعلا منه إنساناً حزيناً، وعلى هذه الدرجة العالية من الاستجابة للحزن. فبلده شهد من المآسي التاريخية الكثير... ورأى أجداده الرؤوس تجتثّ من أجسادها، وسربل السواد حتى أرضه فسميت «أرض السواد»، على رغم أن هذه التسمية تنصرف الى معنى آخر غير الخزن. وتجد اليوم من يؤكد لك ذلك فيقول: «ليست حياة هذا الإنسان وحدها التي لا تعرف معنى للفرح كما تعرفه أمم وشعوب أخرى، بل إن أدبه وفنه لا يعرفان الفرح أو الكلام على السعادة، مدللين على ذلك بأننا لو أخذنا أي ديوان شعر لشاعر من شعراء العراق سنجد أن نصيب «التراجيديا» فيه هو الأكبر. فهو حتى حين يتغزل إنما يستدعي الحزن في غزله. واقرأ أي قصة، أو رواية، وشاهد أي مسرحية ستجد «المأساة» محورها، أو في العمق من موضوعها». لذلك لا نجد ل «النكتة» جذوراً تاريخية في العراق. إلا أن ما شكل مفاجأة لمتابعين، ومنهم المعنيون في الشأن الاجتماعي وبتحولات الرأي والتوجهات في المجتمع، أن «النكتة العراقية» بدأت بالتشكل على نحو شعبي عام في ثمانينات القرن الماضي، إذ بدأت «روحها» تشيع، وكانت البداية بتحريف بعض «الأغاني الوطنية» التي شاعت في ذلك الحين، وإن بقي الحزن لمسة خفية فيها وهي تأخذ اتجاهاً انعكاسياً على الواقع ومعاناته. فالأغنية التي شاعت مع بدايات الحرب العراقية - الإيرانية، والتي تبدأ بأداء حماسي يقول: «ها... يا سعد يا جدّي...» أكملها العراقيون بالقول: «غاز ونفط ما عندي»، في إشارة الى شح الغاز السائل والنفط الأبيض (الكيروسين) بصفتهما مادتين أساسيتين في البيت العراقي، وقد تسببت الحرب في شحهما. ويوم حلت العمالة المصرية في العراق، في شكل كثيف ومتزايد بلغ الملايين، كانت هناك أغنية وطنية عراقية تنتهي بصوت جماعي يقول: «إثلطعش مليون نسمهْ» (أي ثلاثة عشر مليون نسمة) في اشارة الى تعداد سكان العراق يومها... ليحولها الشارع العراقي الى «إثلطعش مليون مصري»، في إشارة الى أعداد المصريين الكبيرة في العراق. غير أن هذه «النكتة العراقية» ستأخذ ابعاداً أوسع وأكبر، وستشمل الجانب السياسي من الحياة الاجتماعية، وذلك من طريق تداول بعض «المقولات» وتحريفها، أو الاضافة إليها بما يجعلها «نكتة بامتياز» وبعضها جاء بتركيب بارع. وستشتد عاصفة النكتة في سنوات الحصار. فمن النكات التي جرى تداولها في تلك الحقبة أن عراقياً التقى هندياً فسأله عن عدد السحرة في الهند، فأعطاه الهندي رقماً. فما كان من العراقي إلا ان قال له: «عندنا أكثر! فنحن عشرون مليون إنسان وكلهم سحرة». فسأله الهندي عن ابرز مشاهد سحرهم؟ فقال العراقي: «الدخل الشهري للواحد منهم خمسة آلاف دينار - في إشارة الى تدني المرتبات - وحاجته الفعلية لكي يعيش خمسين ألف، ومع ذلك عايشين!». إلا أن حقبة ما بعد الاحتلال ستعرف تطوراً واضحاً في «النكتة»، إذ شملت في هذه المرة الحياة السياسية والاجتماعية والمعيشية... وستأخذ نكتة هذه الحقبة صيغاً مختلفة عن صيغها السابقة، فتأتي في صيغة تعليق على ما يجري، أو شكل جواب عن سؤال، كأن يستعير شخص من واقع سوء الخدمات المقدمة من شركات الهاتف المحمول، الذي كثيراً ما يرد عليك وأنت تطلب رقماً، بالاعتذار عن تلبية الطلب لعدم وجود تغطية... فيسأل سائل عن أسباب تردي الخدمات العامة، أو عن وزارة تعيش بلا وزير، فيرد عليه صاحبه: «لأنها بلا تغطية». أو يعتقل شخص من جانب قوات الاحتلال فيأتي من الجيران من يواسي عائلته بالقول: «دَفَعَ الله ما كان أعظم»، في إشارة الى من يُعتقلون من جانب الميليشيات المتنكرة بأزياء عساكر وزارة الداخلية، حيث يتم العثور على جثثهم، بعد أيام، ملقاة في أحد الشوارع، أو في مشرحة الطب العدلي. وقد تسمع من يشيع «خبراً» مفاده أنه تم دمج دائرتي الإطفاء والكهرباء فأصبح اسمها الجديد: «دائرة إطفاء الكهرباء»، في إشارة الى الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي عن سكان العاصمة بغداد. وفي بعض التعليقات المكتوبة على الجدران الكونكريتية الكثير مما يضحك. فهذه الحواجز لم تكتف بعزل المناطق عن بعضها بعضاً، بل عزلت الاسواق والمحال التجارية عن زبائنها، ومن هذا ما كتبه أحد الحلاقين على الجدار الكونكريتي المقابل لمحله: «حلاقة هاني، أطفر وتلكاني» (أي اقفز وستلقاني». يعلّل أحد علماء الاجتماع العراقيين شيوع «النكتة» وتناميها في المجتمع العراقي في هذه الحقب بالذات بالظروف والأحوال السيئة التي يعيشها إنسان هذا المجتمع، ويضيف: «إن النكتة هي سلاح المغلوب، لا الغالب، وهي تنفيس عن حالة قهر، أو تفريج عن كربة، إذ لا يجد «صانع النكتة ما يداوي به همومه سواها»، مؤكداً ان النكتة في مثل هذه الحال «يمكن أن تكون مادة غنية للدراسات الاجتماعية والنفسية لأحوال الناس في فترة من الفترات». ويجد عالم الاجتماع هذا «أن النكتة سلاح سياسي أيضاً»، وإن كانت، في نظره، «سلاحاً سلبياً»، لأنها في مثل هذه الحال - كما يقول - «توصل رسالة، ولا تحقق هدفاً»... ولكنه، في الوقت نفسه، يجد فيها «صورة من صور الصبر ... والمقاومة أيضاً».