الأهرام: 29/3/2009 هذه قصة واقعية من سوهاج بصعيد مصر الجواني, تكشف مدي ظلم البيروقراطية وقهرها للناس, وتسلطها عليهم بحجة تنفيذ القانون!.. فهي تسارع إلي الهدم والتخريب, وتخشي أن يقول عنها أحد لا سمح الله إنها تتجرأ علي المغامرة بمحاولة تطبيق روح القانون, ونشر العمران في البلاد. (1) الحكاية باختصار هي أنه منذ سنوات بدأ الناس في مدن كثيرة من بلادنا يتجهون إلي استصلاح الأراضي الصحراوية الواقعة في زمام البنادر التي يقيمون فيها, والأسباب في ذلك كثيرة, منها ضيق المساحة الزراعية في الوادي القديم, وارتفاع سعر الأرض بشكل مبالغ فيه, وزيادة السكان, وجريان قدر لا بأس به من الأموال في أيدي الناس بحكم العمل في الخليج, أو العمل في مصر في أعمال تدر عائدا مجزيا.. طبعا كان الأسلوب المتبع في هذه العملية التي شملت كل بلادنا من أقصي الشمال وحتي أبعد نقطة في الجنوب, هي وضع اليد, وترتيب الأوضاع أهليا بالتراضي بين الناس, وإذا احتاج الأمر في مرحلة لاحقة, فقد كانوا أيضا مستعدين للتقنين الكامل من إدارة أملاك الدولة.. وهكذا تم استصلاح مساحات شاسعة من الأرض, وهذه كانت تدخل دائرة الإنتاج وتعطي محاصيل وخضراوات وفواكه, وظهرت في عدد لا بأس منها قري جديدة. هذا بالضبط هو ما فعله بعض السكان الطيبين من سوهاج, فقد انطلق بعضهم من قرية الكوامل بمدينة سوهاجشرق النيل إلي استصلاح نحو500 فدان في الظهير الصحراوي غرب النيل, وكان ذلك منذ أكثر من9 سنوات, وهم استخدموا في ذلك أحدث وسائل الري مثل الري بالرش أو بالتنقيط توفيرا للمياه العزيزة التي يستخرجونها من بئر جوفية.. والظاهر أن عملهم هذا كان جيدا حتي إنها باتت تزرع بالطماطم والقمح والخيار والفول.. إلخ. (2) بينما كان هؤلاء يتأهبون لحصاد القمح في شهري أبريل ومايو المقبلين, جاءتهم نذر الشر.. فالأرض دخلت كردون مدينة سوهاجالجديدة, وتم تخصيصها لمصلحة مشروع ابني بيتك, وقالت لهم الجهات المعنية, إنه يلزم تسليم الأرض حتي يتيسر البدء في الإجراءات التنفيذية للمشروع الإسكاني. وبالفعل قامت الجرافات التابعة للمحافظة بحرث المحاصيل في الأرض, وتقليبها فيها, بمعني أنه تم إعدام كل الزراعات الموجودة, سواء كانت قمحا أو خضراوات.. إلخ. وعبثا حاول الأهالي الحصول علي مهلة حتي يجمعوا المحاصيل لكي تنخفض خسائرهم دون جدوي! والأكثر إثارة للدهشة, أنه كان يمكن مثلا للجهة المسئولة عن التنفيذ أن تنتظر هي نفسها وتصادر المحصول بعد حصاده, أو حتي تأمر بمصادرته لمصلحة الفقراء, أو الأيتام, أو أي جهة تشاء.. المهم فقط ألا يتبدد الجهد والمال والعرق بهذا الشكل, ولكن هذا لم يحدث. المهم في القصة كلها, أن الأرض مازالت حتي الآن بعد أن صارت أطلالا تنعي حظها العاثر, دون أن يبدأ فيها أي شيء من مشروع ابني بيتك الذي كانوا يستعجلون تنفيذه, وكأن هذه الأرض هي سبب مشكلة الإسكان في مصر كلها! هل كان يحدث هذا, أو شيء قريب منه, لو كان الذين استصلحوا هذه الأرض من أهل الحظوة والنفوذ, أو من أصحاب المال, أو من الذين يستولون علي الأراضي ويضعون أيديهم عليها لكي يتم تصقيعها تم تقسيمها وبيعها أرض مبان؟. والأغرب أن الدولة نفسها تتطوع بأن تعطي ملايين الأمتارالمربعة, لشركات البناء في مقابل أسعار زهيدة مضحكة, وصار ذلك أحد المصادر الرئيسية لتكوين الثروات الضخمة حاليا, في حين أنها تفعل هذا مع أناس أحالوا الصحراء إلي أرض زراعية منتجة!. (3) تثير هذه الحكاية المأساوية مجموعة أسئلة لا خير فينا إن لم نطرحها, فإذا كان مشروع ابني بيتك جماهيريا ومرغوبا شعبيا, مثلا, فلماذا يتحتم أن يكون تنفيذه علي حساب عمل مفيد لاشك فيه, بحيث يصبح ابني بيتك عملا بغيضا للناس!! إن من استصلحوا هذه الأرض, وأنفقوا عليها كما يقول الزميلان عبده الدقيشي وبلال عبدالعظيم في تحقيقهما بالأهرام 15 مليون جنيه من كدهم ودمهم, وبذلوا فيها العرق والجهد, لماذا يتم تخريب بيوتهم بهذه الطريقة؟.. ماذا سيحدث في الدنيا لوتم تجميد التخصيص لمصلحة مشروع ابني بيتك50 أو100 سنة؟.. ومنح الأرض وفقا لحق الانتفاع أو حتي تمليكها لهم100 سنة؟.. خاصة أن هناك بديلا قريبا صحراويا أيضا وفي نفس الزمام مساحته ألفا فدان؟.. الأعجب من هذا كله, أن الدولة, التي تتحدث عن تجريم تحويل الأرض الزراعية إلي أرض بناء, والتي تتحدث عن تجريم تبوير الأرض, والتي لا تكف مساء وصباحا عن تصديع رءوسنا بحرصها علي استخدام الأرض في الأغراض المخصصة لها, هي نفسها التي تتولي عملية تخريب أرض تم استصلاحها وتحويلها إلي أرض زراعية. تصور فقط كم كان حجم العمالة التي تزرع هذه الأرض والتي ستتبطل عن العمل؟ تخيل أن نفعل بأيدينا هذا التخريب في عام فيه أزمة اقتصادية سوف تطول لعدة سنوات مقبلة؟.. وبدلا من أن نزيد مساحة الأرض الزراعية, فنحن نقللها, وبدلا من أن نزيد فرص العمل, فنحن نقللها؟.. وبدلا من تشجيع الناس علي الاستثمار, فنحن نخرج لهم ألسنتنا بأنهم حرثوا في البحر واستثمروا في الهواء!!