الجمهورية 13/7/2008 في أحد الأخبار المقتضبة والمنزوية في إحدي صفحات جرائدنا القومية والتي لم تتعد بضع كلمات وقعت عيني علي ذلك الخبر الذي استوقفني بالقطع ولم يكن مبعثا للضحك أو الدعابة بقدر ما أثار في نفسي الشجون وأهاج بركان الحسرة داخلي عما آلت إليه أحوالنا عما كنا عليه كأمة وشعب ذي حضارة عريقة طالما علمت الشعوب واخرجتها من دياجير ظلمات التخلف والجهل أمة كانت منارة حصن حضارات ثلاثة استوعبتها وفرجت بينها في تصالح وانسيابية في حالة من الامتزاج الفريد والعجيب دون صدام أو حتي خلاف ولم تندثر حضارة لصالح الاخري أو انتصرت لاحداها علي الاخري فرجت مابين الفرعونية بعظمتها وقوتها العلمية المادية واسرارها التي أحارت العالم والحضارة القبطية بتعاليمها وتقاليدها ثم الحضارة الاسلامية التي كانت فتحا علميا وحضاريا نراها في تلك المآذن والاثار الاسلامية التي تملأ كل الأرجاء وتحتضن الاثار القبطية في انسجام يجسد روح التسامح التي قلما ان عرفتها أية شعوب أخري.. قصة ذلك الخبر بعد تلك المقدمة يمكن أن تنبئ القارئ بفحوي ذلك الخبر وماهو المراد من طرحه وماهو مربط الفرس وموضع الجرح.. وهي خلفية.. لاتتفق مع ما آل اليه حالنا وسلوكياتنا وممارساتنا اليومية التي لاتتفق مع تلك الروح وخصائص ذلك الشعب صاحب هذه الحضارات وكأننا استبدلناه بشعب آخر وكأن من يسكنون هذه الارض صاحبة التراث الحضاري هم اجناس غرباء قد اتوا من بلاد بعيدة ومن عصور ظلامية.. أيا كان الامر فإن ذلك هو الحادث والذي قد لايحتاج الي جهد منك لكي تكتشفه.. ان ذلك الخبر كان من المفروض أن نكون نحن مصدره وصانعيه فاقرأ ماذا يقول الخبر القضاء السويسري يصدر حكما قضائيا ضد ديك بالحبس ليلا في مكان مجهز بعوازل صوتية للحيلولة دون ازعاج الجيران بسبب صياحه والاكثر من هذا وذاك هو ان الحكم قد جاء علي نحو تفصيلي وفني حيث ان المحكمة الادارية في مدينة كانتون قد حددت ان الطبقة العازلة يجب ألا يقل سمكها عن 8 سنتيمترات وان يتم احتجاز الديك بين الساعة الحادية عشرة مساء والسابعة صباحا . تخيل ان ذلك يحدث بالنسبة لديك يصيح فاذا بالدنيا تنقلب رأسا علي عقب وترفع الدعاوي القضائية وتحدد اقامة الديك فما بالك بالنسبة لتلك الحالة من العشوائية والفوضوية التي نعيشها وذلك التلوث الضوضائي الرهيب الذي نعيش فيه والذي لم يعد يقتصر علي أحياء معينة ولكنه اجتاح كل الأحياء والذي يصل الي حد الصخب الجنوني بالأحياء العشوائية لقد أصبح التلوث الضوضائي إحدي خصائص مجتمعنا وهو اشد انواع التلوث أكثر من التلوث الهوائي والمائي رغم ارتفاع معدلاتهما علي نحو كبير يفوق المعدلات المسموح بها عالميا ويقاس التلوث الضوضائي بالديسيل ومدي قدرة الاذن علي تحمل الذبذبات والتي تجاوزت لدينا قدرات الاحتمال وكان الله في عون جهازنا العصبي الذي اصابه التلف ولم يعد يحتمل واصبح الانفلات السلوكي ظاهرة يومية واصبح الصوت العالي هو السمة الاساسية في تعاملنا مع اولادنا وزملاء العمل وفي الشارع والثورة لأتفه الاسباب وقد يتجاوز الامر ذلك السباب وقد يصل الي حد التشابك بالايدي . ذلك هو ما امسي عليه حالنا وما اعتدنا عليه وأصبح أبنا في سلوكنا الذي سيطرت عليه العشوائية والفوضوية وأخواتها وهي الزحام والصوت العالي ودخول العديد من الالفاظ الغريبة علي لغتنا العربية الجميلة واذا ما ساقتك قدماك الي أحد الأحياء الشعبية المزدحمة ذات الطابع العشوائي والتي تكرس الصوت العالي في التعامل بحيث لاتكاد تسمع من يتبادل معك اطراف الحديث علي بعد امتار او خطوات ولم تعد مكبرات الصوت هي الاداة الوحيدة مصدر المشكلة ولكن وجد ماهو اقوي منها ذو الذبذبات العالية "الدبجية" التي تكاد تنخلع معها القلوب.. وهناك العديد من الامراض الناجمة عن التلوث الضوضائي وهي امراض ارتفاع ضغط الدم والسكر والقلب والاصابة بالصمم ولاسيما بين طبقة الشباب مابين سن 16:20 سنة حيث انهم الاكثر عرضة لترددهم علي صالات الديسكو ولكننا قد اصبحنا نعيش في وسط صالة ديسكو كبيرة قد يكون محيطها هو الحي او المنطقة أو حتي المدينة كلها ناهيك عن تلك الامراض النفسية التي اصابتنا وتقول الاحصائيات انه لدينا 16 مليونا يعانون من أمراض نفسية وعصبية وهو ماينعكس علي السلوك اليومي الذي قد يبدأ من مجرد الصوت العالي "الزعيق" والتشاجر والتشابك بالايدي وقد رأينا نوعية غريبة من الجرائم التي تنعدم فيها الدوافع والاسباب مثل ذلك الموظف الذي قام بقتل احد الاشخاص صاحب بقالة وهو في عودته الي منزله من عمله دون ان تكون بينهما اية علاقة او معرفة هذه نوعية من الجرائم التي انتشرت بيننا بسبب تلك الحالة من الفوضوية والتلوث الضوضائي الذي نعيش فيه وهي نتيجة علمية فمن المعروف ان المجتمعات الاكثر ضوضاء كالمجتمعات الصناعية يرتفع بها معدل الجريمة عن المجتمعات الريفية الهادئة.. كل ذلك يحدث لدينا ولم يتم رفع دعاوي قضائية او تصدر احكام قضائية علي مصادر الصخب وادواته علي غرار ذلك الحكم الذي صدر علي ذلك الديك الذي يعد بمثابة منبة للتوقيت ولكن فيما يبدو ان الديك هو الطرف الضعيف والمستصغر في كل العصور لذلك حاكموه وحددوا اقامته علي رأي قولة شاعرنا أبو العلاء المعري المشهورة بالنسبة للديك : "استصغروك فذبحوك".