مفارقة غريبة تشهدها القارة الأوروبية, فقد قدمت للعالم أكبر تجارب الوحدة وأكثرها نجاحا في العصر الحديث, وهي الاتحاد الأوروبي, ولكنها في الوقت نفسه قدمت وما زالت تقدم أكبر نماذج الانفصال والاستقلال والحكم الذاتي, التي بدأت بتفكك الاتحاد السوفيتي, وكان آخرها نموذج استقلال كوسوفا الذي فتح الباب علي مصراعيه أمام ظهور دعاوي انفصالية عديدة, بما فيها حركات ظلت كامنة أو' مستحيلة' لفترات طويلة. وحتي ردود أفعال ومواقف الدول تجاه النزعات الانفصالية التي شهدتها القارة الأوروبية تقدم لنا دروسا سياسية ودبلوماسية يجب الاستفادة منها, فقد كانت نموذجا حيا لما يجب أن تكون عليه التوجهات الدبلوماسية الواقعية لكل دولة في التعامل مع استقلال الدول الجديدة أو النزعات الانفصالية, إذ أن التأييد بدون دراسة للحركات الانفصالية أو الاعتراف المتسرع باستقلال دول جديدة يعني أنك ستواجه الموقف نفسه من الدول الأخري إذا ظهرت نزعات انفصالية علي أرضك, حتي ولو كانت هناك اختلافات في الأحوال والظروف, والقرار يجب أن يكون مدروسا وقائما علي حسابات المصالح والمكاسب والخسائر, ولا يهدد بتوتر علاقات مع دول شقيقة أو صديقة, ويجب ألا يكون قائما علي العواطف والمصالح والشعارات فقط. ونظرة إلي تاريخ وحاضر ومستقبل النزعات الانفصالية في أوروبا تقرب إلينا المعني: ففي العصر الحديث, كان تفكك الاتحاد السوفيتي السابق إلي جمهوريات هو التحول الأبرز, وكانت روسيا هي الوريث الأوروبي الأكبر للإمبراطورية السوفيتية القديمة, وبجانبها أكثر من وريث في أوروبا وآسيا, إلا أن روسيا الاتحادية نفسها تواجه منذ قيامها في العقد الأخير من القرن الماضي تزايد النزعات الانفصالية علي أراضيها, خاصة في الجمهوريات الجنوبية الواقعة شمال القوقاز, والتي تتفق فيما بينها في أنها تعبر عن مجتمعات مسلمة في أغلبها عانت طويلا من الاضطهاد والتنكيل في العهد الشيوعي, وتتمتع هذه الجمهوريات بثرائها في الموارد الطبيعية, خاصة الغاز الطبيعي الذي لم تتوان روسيا في عهدي بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين عن الدفاع عنها لتبقي ضمن أراضيها مهما كان الثمن, واستخدمت في سبيل ذلك القوة المسلحة, وخاضت من أجل ذلك حربين ضاريتين في جمهورية الشيشان التي ما زالت جزءا من الكيان الروسي هي وغيرها من الجمهوريات الروسية الجنوبية مثل داغستان. وعندما تزايدت الضغوط الدولية علي روسيا من أجل الاستجابة للنزعات الانفصالية, كانت روسيا ترد دائما بكل قوة معلنة عن رغبتها في الحفاظ علي وحدة أراضيها حتي لا ينفتح الباب علي مصراعيه أمام مزيد من النزعات الانفصالية في الجنوب الروسي, وكانت في الوقت نفسه تلوح بأن أي دولة أوروبية لا يمكنها القيام بإجراء مماثل إذا كانت الحركة الانفصالية علي أراضيها. وحتي الجمهوريات المنبثقة عن الاتحاد السوفيتي تعاني من نزعات انفصالية قوية علا صوتها في الفترة الأخيرة, مثل إقليم أبخازيا في جورجيا, والغريب أن موسكو بدافع من مصالحها السياسية والاستراتيجية تدعم توجهات الأبخاز الانفصالية نكاية منها في الرئيس الجورجي ميخائيل ساكشفيلي الموالي للغرب, ومثل إقليم ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان, والأخيرة جمهورية مسلمة. وكانت منطقة البلقان من أكثر مناطق أوروبا التي شهدت وما زالت تشهد حركات انفصالية, وبدأت هذه الانفصالات بتفكك الاتحاد اليوجوسلافي السابق إلي دول, ليست صغيرة, وكانت صربيا الوريث الأكبر لهذا الاتحاد, إلا أنها فقدت في تسعينيات القرن الماضي جمهورية البوسنة والهرسك التي أعلنت عن نفسها كدولة مستقلة, ثم فقدت إقليم كوسوفا الذي تقطنه أغلبية من الألبان المسلمين عددها2 مليون نسمة والذين نجحوا بتأييد كبير من القوي الكبري في إعلان استقلال الإقليم, لتثور مشكلة أخري تتعلق بالأقلية الصربية التي تقيم في الإقليم أو الدولة الوليدة, كما هدد الصرب في البوسنة بإعلان استقلالهم تحت اسم جمهورية' سربسكا' علي غرار كوسوفا, وتثور مخاوف كبيرة في أنحاء متفرقة من قارة أوروبا التي باتت تخشي تكرار ما حدث في كوسوفا من جانب حركات انفصالية أخري علي أراضيها, مما يهدد وحدة أراضي دول أوروبية كبيرة مثل إسبانيا, إضافة إلي المعارضين التقليديين مثل صربيا وروسيا. وهناك أيضا في أوروبا قضية شائكة وهي القضية القبرصية, أو قضية جزيرة قبرص التي انقسمت إلي شطرين: شطر يوناني, وهو ما عرف لاحقا باسم قبرص ويحظي باعتراف المجتمع الدولي, وشطر تركي يحمل اسم قبرص الشمالية أو قبرص التركية والذي لم يعترف به المجتمع الدولي ويحظي بتأييد تركيا منذ إعلان استقلاله من جانب واحد عام1983. ومن النزعات الانفصالية البارزة في أوروبا والتي كانت وراء موقف إسبانيا المعارض لاستقلال كوسوفا, الحركة الانفصالية القوية في إقليم كاتالونيا الإسباني الخاضع للحكم الذاتي بعاصمته برشلونة, والتي تزايدت في الفترة التي أعقبت سقوط حكم فرانكو عام1975, وأصبحت تشكل صداعا في رأس الحكومات الإسبانية المتعاقبة, كما توجد في إسبانيا حركة إيتا المسلحة التي تقاتل من أجل استقلال إقليم الباسك والتي يعبر عنها سياسيا حزب' خيري باتاسونا'. ومن الحركات الانفصالية البارزة حركة الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي اختار الحل الديمقراطي السياسي والسلمي علي الحل العسكري المسلح, ويعبر عن مطالبه السياسية حزب' شين فين' الجناح السياسي للجيش الجمهوري, وهناك أيضا توجهات أسكتلندية متزايدة للانفصال عن بريطانيا, تم التعبير عنها بوضوح في العديد من استطلاعات الرأي التي أجريت حول هذا الموضوع. وهناك في فرنسا حركة انفصالية تتصاعد يوما بعد آخر في جزيرة كورسيكا جنوبا, وهناك أيضا إقليم بريتاني, والمشكلة في إيطالياأكبر وأعمق, إذ يسعي الشمال الأكثر تقدما ونهضة صناعية إلي الانفصال عن إيطاليا نفسها, ويعبر عن هذا التوجه حزب رابطة الشمال أو الرابطة الانفصالية, ولكن الحكومة المركزية الإيطالية تدرك تماما أنها يجب أن تدافع بكل ما تملك عن وحدة أراضيها وتماسك أقاليمها, خاصة الشمالية منها التي توجد بها معاقل الصناعة والاقتصاد في البلاد بصفة عامة. وهناك أيضا حركات انفصالية صغيرة في الدنمارك والسويد والنرويج, ولكن أغلبها يعبر عن توجهات وانتماءات سكان البلاد الأصليين أكثر من كونها حركات سياسية أو انفصالية مؤثرة.