أين وصلت الاستراتيجية الأميركية في البحر الأبيض المتوسط، وما هي معالمها الراهنة؟ وهل تنتقل من مرحلة التلويح باستخدام القوة الى التنفيذ؟ وقبل هذا وذاك، ما المغزى من وجود البوارج الأميركية قبالة السواحل اللبنانية؟ وهل أعطي هذا الأمر ما يفوق حجمه الطبيعي؟ لقد أعلنت البحرية الأميركية في الرابع من مارس الجاري ارسال الطراد USS Philippine Sea والمدمرة USS Ross DDG 71 الى المياه الدولية الواقعة بين جمهوريتي قبرص ولبنان، موضحة أن سفينة للتزود بالوقود قد أرسلت كذلك الى المكان نفسه، في حين تم سحب المدمرUSSCole. وتعتبر المدمرة USS Ross DDG 71 الأهم بين القطع الأميركية السابقة الذكر، ان من حيث قدراتها القتالية، خاصة الصاروخية منها، وإن من حيث امكاناتها الاستطلاعية الفائقة. ولا ريب بأن لهذا الأمر دلالاته البيّنة. بخصوص السجال الدائر حول ما اذا كانت البوارج الأميركية متواجدة فعليا داخل المياه الاقليمية اللبنانية أم أنها في المياه الدولية وحسب، لا يبدو اننا بصدد نقاش ذي مغزى على مستوى حسابات الأمن والدفاع، ذلك أن المسافة التي تفصل شواطئ قبرص عن شواطئ كل من لبنان وسوريا هي في حدود وسطية لا تتعدى مائة كيلومتر، أي أن القطع الأميركية لا تبعد، مبدئيا، أكثر من خمسين الى سبعين كيلومترا عن الشواطئ اللبنانية، وهذا نظير المسافة بين شواطئ بيروت وبعض شواطئ الجنوب اللبناني. من جهة أخرى، فان وجود القطع الأميركية في المياه الدولية، بالمعنى المتعارف عليه، لا ينفي حقيقة أن هذه القطع موجودة عمليا في المنطقة الاقتصادية المتداخلة لقبرص ولبنان. فحسب قانون البحار الجديد، يمتد عرض هذه المنطقة الى 200 ميل بحري بدءا من خط القياس. وتتداخل هذه المنطقة بين الدول التي لا تزيد المسافة الفاصلة بينها على أربعمائة ميل، كما هو الحال بالنسبة للجوار اللبناني القبرصي. مع ضرورة التذكير بأن سيادة الدول على مناطقها الاقتصادية الممتدة الى ما بعد مياهها الاقليمية هي سيادة اقتصادية وحسب، ولا تلغي مبدأ كونها جزءا من أعالي البحر. إشارة أزمة دعونا الآن نطرح السؤال التالي: ما هي العوامل التي دفعت الولاياتالمتحدة لارسال عدد من بوارجها الى المياه الدولية بين قبرص ولبنان، على الرغم من الحساسية التي تكتنف هذه الخطوة، خاصة لجهة التوقيت. لا ريب بأن ثمة حسابات كثيرة قد دخلت في صياغة هذا القرار، ولا ريب أيضا بأن ثمة سيناريوهات محتملة قد جالت في خلد المخططين الأميركيين وهم يتخذون خطوتهم هذه. وقد لا يكون بين الساسة في واشنطن من يقول اليوم باندلاع حرب أو نزاع واسع في المنطقة، وتحديدا بين اسرائيل ولبنان. لكن الأرجح أن شكلا من الصدام قد تم توقعه أميركيا. كما أن امتدادا طويل الأجل للأزمة السياسية اللبنانية ربما لاح في أفق المعنيين في واشنطن. في حالة الامتداد هذا، فان البوارج الأميركية تبعث برسالة لعدد من المعنيين، المحليين والاقليميين، وهذا على الأقل ما صرح به المسؤولون الأميركيون. أما في ضوء فرضية نشوب حرب أو صدام عسكري، فان دور البوارج الأميركية سوف يتجاوز، على الأرجح، الطابع الردعي، الى الدعم الاستطلاعي واللوجستي لاسرائيل. ان افتراضا كهذا مستبعد على نحو مبدئي، والأحرى تجنب الاسترسال في التحليل، خاصة ان تدخلا من هذا القبيل لن يؤثر كثيرا على مسار حرب يمكن أن تدور بين جيش نظامي وقوة مسلحة غير ظاهرة للعيان. ان تدخلا مباشرا للقوة الأميركية المتواجدة في المتوسط يمكن توقعه مبدئيا فيما لو تحولت الحرب الى نزاع اقليمي. الدور الأوروبي وعلى صعيد موقع لبنان تحديدا، في الاستراتيجية الدفاعية الأميركية، يمكن أن نشير الى أنه قد تم منذ انتهاء حرب تموز (يوليو) تحويل المسؤولية عن العمليات العسكرية الأميركية المتصلة بالوضع في لبنان من القيادة المركزية الى القيادة الأوروبية للولايات المتحدة . واعتبارا من 23 أغسطس 2006، استبدل فريق العمل-59 التابع للقيادة المركزية بالفريق المشترك- لبنان التابع للقيادة الأوروبية. وضم الفريق، الذي وضع تحت اشراف جون ستافلبيم، قائد الأسطول السادس، 2400 جندي وبوارج وطائرات على أهبة الاستعداد. وبحسب واشنطن، فقد جرى تحويل المسؤولية من القيادة المركزية الى القيادة الأوروبية على نحو سلس وميسر، لأن الأخيرة كانت تدعم الأولى، وكانت تعالج مسائل متصلة باسرائيل أيضا. وفي جانب منه، عكس قرار نقل المسؤولية جهود التحول العسكري الدائر في كل من وزارة الدفاع الأميركية وحلف شمال الأطلسي (الناتو). « أكتيف أنديفور» وقد حدث في السنوات الأخيرة تطوران رئيسيان في مسار الاستراتيجية الأميركية في البحر المتوسط: تمثل الأول في الانخراط في عملية المراقبة الدائمة للممرات البحرية الحيوية، خاصة من خلال ما يعرف بعملية أكتيف أنديفور (Operation Active Endeavour ). وتمثل الثاني في تعزيز القدرة الاستطلاعية والهجومية الأميركية. وقد تم ذلك من خلال بناء علاقات عسكرية جديدة مع عدد من دول شمال البحر المتوسط، وكذلك ابرام اتفاقات خاصة بتشييد قواعد عسكرية متقدمة في دول واقعة على تخوم المنطقة، وتحديدا في بلغاريا ورومانيا. على صعيد عملية أكتيف أنديفور، التي يقودها الناتو، اتخذت هذه العملية في البدء طابعا مدنيا، حيث أعلن بأنها تهدف إلى حماية الممرات التجارية في البحر المتوسط، الذي تمر عبره نحو ثلاثين في المائة من حركة الملاحة البحرية، ونحو 65% من النفط والغاز المستهلكين في غرب أوروبا. وشملت عملية أكتيف أنديفور الحوضين الرئيسيين للمتوسط، الشرقي والغربي، وكذلك البحار الاقليمية المتصلة به، وهي ليغوريا، وتيرانا، والأدرياتيكي، وايجا. وكما هو معروف، تمتد سواحل المتوسط عبر ثلاث قارات (أوروبا وأفريقيا وآسيا) بمسافة 46000 كيلومتر. وعلى الرغم من أن نشاطات الناتو كثيرا ما تقترن بعمليات برية، أو تتخذ من البر منطلقا لها، فانها تمتد على طول الطيف الاستراتيجي. ومع تقدم عملية أكتيف أنديفور استعرض أعضاء الحلف تفويضه بالعملية وقرروا توسيع نطاقها. وفي عام 2003 بدأت عملية أكتيف أنديفور بحراسة300 باخرة تعبر يوميا مضيق جبل طارق. وفي وقت لاحق من العام ذاته، وافق الحلف على اجراءات خاصة تسمح للقوات المسلحة باعتلاء البواخر المختلفة، بما في ذلك المدنية منها. وفي عام 2004 وسّع الحلف من تفويض العملية، فبسط سيطرته على كامل البحر المتوسط، وزاد من جهوده لجمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية حول حركة الملاحة الاقليمية. .. و «مارلو» في الخليج وبالعودة الى عملية أكتيف أنديفور ذاتها، فقد سعى الحلف في البدء الى اقتفاء أثر عملية مشابهة تنفذها الولاياتالمتحدة في الخليج العربي منذ عام 1987، وتعرف باسم MARLO، وقد اشتق هذا الاسم من الأحرف الأولى لعبارةMarine Liaison Officers. وهدفت هذه العملية حماية ناقلات النفط الماخرة في مياه الخليج ومضيق هرمز. وقد توسعت مهام العملية لتشمل تنظيم خطوط سير السفن ومتابعتها، وتأمين سلامتها، ابتداء من شمال الخليج، مرورا بمضيق هرمز وخليج عمان وبحر العرب وحتى مضيق باب المندب، وتخوم القرن الأفريقي. وعلى الرغم من ذلك، فان عملية أكتيف أنديفور قد ارتدت طابعا سياسيا واستراتيجيا يفوق ذلك السائد في عملية مارلو، الدائرة في الخليج. ويعود السبب الى أن العملية الأولى أريد لها أن تكون بديلا من الاتفاقيات العسكرية المباشرة مع دول المتوسط، متى بدت هذه الاتفاقيات متعذرة لأسباب سياسية. تشييد القواعد وفيما يتعلق بالشق الثاني من تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المتوسط، أي تطوير العلاقات وتشييد القواعد، يمكن أن نلحظ أن تطورا هاما قد حدث على صعيد روابط واشنطن العسكرية مع خمس دول في شمال المتوسط، هي ألبانيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود. بيد أن الأهم هو ما جرى على تخوم المتوسط، حيث نجحت واشنطن في توقيع اتفاقيتين دفاعيتين مع كل من رومانيا وبلغاريا، في العامين 2005 و2006 على التوالي. وقد سمحت الاتفاقية مع صوفيا بانتشار 2500 جندي أميركي لمدة عشر سنوات، يزداد عددهم الى خمسة آلاف بعد مضي شهر على توقيع الاتفاق. كما تضمنت الموافقة انشاء ثلاث قواعد عسكرية للولايات المتحدة في الأراضي البلغارية. ومن جهة أخرى، قدمت الاتفاقية الموقعة مع بوخارست تسهيلات عسكرية، وسمحت بنشر قوة أميركية قوامها 1500 جندي في قاعدة ميخائيل كوجالنيتشيانو على البحر الأسود، واستخدام المطار العسكري قرب ميناء كونستنزا، وقاعدة باباداغ، ومركزي التدريب تشينكو و سماردان في دلتا الدانوب. وأيا تكن تفاصيل الاتفاقات الأميركية مع صوفيا وبوخارست، فان ما حدث قد عزز على نحو كبير من القدرة الهجومية والاستطلاعية لأميركا في البحر المتوسط، كما في البحر الأسود. السيادة البحرية ويبقى الانتشار البحري حول العالم ركنا ثابتا في الاستراتيجية الدولية لأميركا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتم التأكيد بصورة خاصة على البحر المتوسط والمحيطين الهادئ والأطلسي. أما التواجد الدائم في المحيط الهندي فقد جرى في سنوات لاحقة. وقد باشر الرئيس رونالد ريجان التنفيذ السريع لخططه الخاصة بتحقيق السيادة البحرية على العالم. وتضمن برنامج البناء العسكري البحري، الذي تقدم به في عام 1981 ، زيادة عدد سفن الأسطول العسكري الأميركي حتى أواسط التسعينات من 456 الى 610 سفن حربية، وبناء حاملتين للطائرات ذات أهداف متعددة، وانشاء 17 غواصة، وتطوير 4 بوارج، وتصميم 17 طرادا صاروخيا و6 مدمرات و9 فرقاطات و11 سفينة انزال. وخططت ادارة ريجان لمنح 2000 طائرة حربية لسلاح البحرية الأميركي. وفي يوليو 1981، طور وزير الدفاع الأميركي حينها كاسبر واينبرجر مبدأ التفوق العسكري الدولي للولايات المتحدة بالقول: «يجب علينا أن نسيطر على البحار لضمان امكانية الوصول الى حلفائنا والى الموارد، ومن أجل نقل قواتنا الى مناطق المواجهة المحتملة». وانطلاقا من هذه الرؤية، أضحت مئات البوارج الحربية الأميركية تجوب البحار والمحيطات، منها 276 سفينة معنية بالحرب الدائرة في أفغانستان والعراق. القوة مؤجلة الاستراتيجية الأميركية في البحر المتوسط اليوم تمر بما يمكن وصفه باحدى أهم مراحل تطورها. وهي قد اتجهت ضمنا نحو اعادة بناء فرضها كمّ متزايد من المتغيرات، أبرزها الوضع الفلسطيني الذي وصل مرحلة الذروة، واحتمال شن حرب اسرائيلية جديدة على لبنان، أو اندلاع حرب اقليمية، وكذلك التحرك العسكري الروسي المستجد في المتوسط. وعلى الرغم من ذلك، ليس من الواضح ما اذا كانت القوات الأميركية في المتوسط سوف تنتقل من مرحلة التلويح بالقوة الى استخدامها الفعلي ضد خصومها الاقليميين، وذلك في ظل ادراك متزايد لخطورة انزلاق المنطقة الى حرب اقليمية يصعب السيطرة عليها.