يؤكد المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله ان "عاشوراء تعني الاسلام الانساني الاصيل"، ويكرر "تحريمه للتطبير، اي شطب الرؤوس بالسيف حتى يسيل الدم"، مستندا الى القاعدة الفقهية القائلة بعدم وجوب ايذاء النفس. كلام السيد فضل الله جاء خلال حديث ل"النهار" في اليوم العاشر من محرم في ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي، حيث يحيي الشيعة هذه المناسبة في انحاء العالم في مراسم تعيد تجسيد واقعة كربلاء التي جرت عام 61 للهجرة. • ماذا تعني عاشوراء في الوجدان الشيعي؟ - في البُعد التاريخي، تمثّل عاشوراء الذكرى التي يستعيد فيها المسلمون الشيعة واقعة كربلاء التي استُشهد فيها الإمام الحسين (ع)، وهو ابن بنت رسول الله محمّد (ص)، والثلّة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، بأبشع ألوان الوحشيّة، والتي جمعت الجور والطغيان والخذلان في جبهةٍ واحدة ضدّ الحسين (ع) الذي كان معارضاً للسلطة القائمة آنذاك، والتي انحرفت كثيراً عن الخطّ الإسلامي في حركة العدالة في الحُكم وإدارة شؤون الناس، وقد كان مطلوباً منه أن يعترف بشرعيّة كلّ ذلك، بما يؤدّي إلى إدخال الوجدان الإسلاميّ العام في مزيد من التشوّهات والانحرافات، تجاه قضايا أساسيّة في حركة المجتمع الإسلامي وواقعه؛ ولذلك لم تكن الأمور تقبل الحلول الوسط، وهو ما تعبّر عنه الكلمة المنسوبة إلى الحسين (ع): «وعلى الإسلام السلام أن بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد». وقد جسّد الإمام الحسين (ع) أمام كلّ التحدّيات التي واجهته كلّ القيم الرساليّة الإسلاميّة، على المستوى الروحي، حيث نجد في كربلاء سموّ الروح الإنسانيّة التي تحلّق في آفاق العشق الإلهيّ، ليقول الحسين (ع) وهو يستقبل ذبح ولده الرضيع: «هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله»، ونجد فيها روحيّة الحوار حتّى في قلب المعركة، ليشير الحسين (ع) إلى مواقع الجهل في حركة هؤلاء الذي أتوا لقتاله، مستثيراً كلّ عناصر الخير فيهم، حتّى في ما يتّصل بقيم العروبة فضلاً عن الإسلام، ونجد فيها الصبر على المصائب بصلابة الإنسان الحرّ أمام العالم كلّه، الذي كلّما ازدادت عبوديّته لله ترسّخت عناصر الحرّية في نفسه أمام كلّ أنصاف الآلهة وأرباعها من الطغاة والمتجبّرين، ونجد فيها كلّ أريحيّة الأخلاق الإنسانيّة، التي تنساب بالإنسان رحمةً له حتّى وهو يشهر سيفه للقتل، وكانت كربلاء عنواناً لثبات إرادة الإصلاح في الأمّة، في موقف يرفض الاعتراف بشرعيّة الباطل والمُنكر في حياة الناس، انطلاقاً من رفض كلّ ما ينزل بمستوى إنسانيّة الإنسان، ويحرفه عن مسؤوليّاته في إعمار الحياة، وتأكيد خطّ العدالة في كلّ مجالاتها، وما إلى ذلك ممّا ينفتح على عناصر القوّة في شخصيّة الإنسان المؤمن الرساليّ الملتزم. ولذلك، فقد انطلق التخطيط الإسلامي من أهل البيت (ع) لتكون عاشوراء عناصر إثارة تزاوج بين الفكر الإسلامي الأصيل والعاطفة الإنسانيّة النبيلة، في حركةٍ لإعادة صوغ الوجدان الإسلاميّ الإنسانيّ، بما يجذّر عناصر الاستقامة والصلاح والعدالة والقيم في شخصيّة الإنسان المسلم، ويُعيده إلى دوره الفاعل في إعادة تشكّل المجتمع الإسلاميّ في كلّ مجالاته، لا السياسيّة فحسب، وإنّما على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والروحي وما إلى ذلك. • إذا كانت عاشوراء الذكرى تتحرّك في هذا الاتجاه، فلماذا التركيز على الندب والبكاء بما جعل منها مناسبة لذلك؟ - من الطبيعيّ أنّك عندما تستعيد المأساة التي تتّصل برموزك، وخصوصا إذا كانت تتحرّك في الإطار الديني الإيماني، فإنّك تستعيدها من خلال العاطفة، ومن الطبيعي حينئذٍ أن تتلوّن أساليب إثارة العاطفة من خلال ما يعيشه الناس من أساليب ووسائل، وأن تعلق بالذكرى في حركتها الإحيائيّة بعض السلبيّات التي تنطلق من طبيعة الثقافة التي يختزنها بعض الناس هنا وهناك. ونحن دعونا مراراً إلى ضرورة أن تتحرّك وسائل التعبير عن المأساة من خلال بُعدها الإنساني العفوي إضافةً إلى ما انفتح عليه التطوّر في أساليب التعبير في العصر الحديث، مع تأكيدنا ضرورة بقاء الذكرى حيّة على المستوى الجماهيري الذي يشكّل زخماً عفويّاً لحضور الذكرى في الوجدان العام، في حين يطلّ الجانب الفنّي على مستوى الإنتاج المسرحي أو السينمائي أو الإحياء النخبوي على بعض الجوانب التي لا تغطّي كلّ حاجات إثارة الذكرى في الوجدان العام في حركة الأمّة. وإنّنا مع كلّ ذلك، نشدّد على ضرورة أن لا تنحرف أساليب التعبير عن قيم عاشوراء الرساليّة والإنسانيّة، مما أدخله بعض الناس نتيجة حماسهم الشخصي، كضرب الرؤوس وإدماء الأجساد، وأصبح نوعاً من التقليد الممارس لدى فئات معيّنة. • ما هو أساس رأيكم في تحريم التطبير (شطب الرؤوس)؟ في الموقف الشرعي من التطبير اتجاهان: - الاتّجاه الأوّل يتبنّى القول بحرمة التطبير، وهو ضرب الرأس بالسيف حتّى يسيل الدم، على أساس وجهة النظر الفقهيّة القائلة بحرمة الإضرار بالنفس من دون مسوّغ شرعيّ، ونحن نتبنّى هذا الاتجاه، وعليه، لا تقتصر الحرمة على التطبير، بل تشمل مثل ضرب الظهر بالسياط أو بالسلاسل على النحو الذي يضرّ بالجسد، لأنّ الملاك واحد. الاتجاه الثاني الذي يقوم على أساس وجهة النظر الفقهيّة القائلة بحرمة الإضرار بالنفس إذا أدّى إلى التهلكة، ولا يحرم ما لا يؤدّي إلى التهلكة. وبناء عليه قد لا يرى هذا الاتجاه مانعاً من التطبير أو ما شاكله من جهة العنوان الأوّلي للمسألة؛ إلا أنّه لا يلزم أصحاب هذا الاتجاه القول بحلّية مثل هذه الأعمال، لأنّ ثمّة محذوراً شرعيّاً آخر، وهو توهين صورة الإسلام من خلال هذه الأعمال، ممّا يندرج في إطار الحُكم الثانوي للمسألة، والذي يقتضي تحريم مثل هذه الأعمال. وهذا الاتجاه في المسألة كان يتبنّاه المرجع السيّد الخوئي (رحمه الله). وليس من إشكالٍ في الحرمة الشديدة لبعض مظاهر التطبير، وهو تطبير الأطفال، فإنّه ليس من ولاية للأب على الإضرار بولده، كما أنّ أيّ نذرٍ لذلك هو نذرٌ غير شرعي، لأنّ متعلّق النذر لا بدّ أن يكون راحجاً فضلاً عن كونه أمراً مشروعاً. وعلى كلّ حال، فالتطبير أو ما شاكله من ممارسات عنيفة في إحياء ذكرى عاشوراء يفتقر إلى المبرّر المنطقي في علاقة الممارسة بالذكرى، لأنّ هذه الممارسات إن كانت تنطلق من المواساة للإمام الحسين (ع)؛ لأنّه جُرح وضُرب بالسيف، فإنّ المواساة لا بدّ أن تنطلق من القيمة التي جسّدها الحسين (ع) عندما جُرح، وهي تقتضي أن لا يجرح الإنسان نفسه بعقل بارد، بل أن ينطلق في سبيل الله، كما في مواقع مقاومة الاحتلال، فإذا جُرح في ذلك الموقع فقد حقّق المواساة عندئذٍ. وإذا كانت هذه الأساليب تُبرّر من حيث كونها تعبيراً عن الحُزن، فإنّ للحزن وسائله الإنسانيّة التي لا تتفّق مع مثل هذه الأساليب، علماً أنّ وسائل التعبير الإنساني ينبغي أن تكون مشروعةً في المبدأ. عباس صباغ