هل يأتي على مصر حين من الدهر، تصبح فيه دائنة لصندوق النقد الدولي كما حدث مع البرازيل؟ فبعد أن كان الصندوق يمتنع عن إقراض البرازيل عام 2002، اصبح بعد 8 سنوات من تطبيق برنامج الرئيس السابق "لولا دا سيلفا"، مدينا للبرازيل ب 14 مليار دولار. لا مانع من الأحلام، فالبرازيل كانت قبل عشر سنوات في حال اسوأ من حالنا، إلا انها قفزت لتصبح في مصاف الدول العظمى اقتصاديا. قوة الاقتصاد البرازيلي وصلت الى حد أنه اصبح يمد يد المساعدة لعدد من دول الاتحاد الاوربي مثل البرتغال بهدف انتشالها من أزمتها الاقتصادية عن طريق شراء سندات الخزانة التي أصدرتها الحكومة البرتغالية. يقظة العملاق الجنوب امريكي ونهضته الاقتصادية جعلته مركز جذب للمهاجرين الاوربيين بحثا عن فرص عمل أفضل!. كل ذلك جاء بعد فقر مدقع عاشت فيه البرازيل منذ ما يقرب من العقد، وديون متلتلة، ومعدل جرائم مرتفع وانفلات أمني شديد وتدهور لقيمة الريال (العملة البرازيلية) في مواجهة الدولار. إلا أن المارد البرازيلي أفاق وتمكن من أن يزيح الاقتصاد البريطاني من المرتبة السادسة كأقوى اقتصاد في العالم، ويحتل مكانه ويسعى الآن كي يصبح صاحب المرتبة الخامسة بحلول عام 2016. لهذه الأسباب يشد الرئيس محمد مرسي الرحال الى البرازيل للاستفادة من تجربتها، خاصة وأن هناك أوجه تشابه بين البلدين في الامكانيات المتاحة والظروف الاقتصادية، بل وحتى الوضع السياسي، فقد عانت البرازيل من طول فترة عدم الاستقرار الاقتصادي اثناء تحولها من الحكم العسكري الى الديمقراطية عام 1986 واستغرق وضع دستور جديد لها فترة زمنية طويلة. وعلى الرغم من أن تجارب الدول لا يمكن محاكاتها كنسخة بالكربون، إلا أن الوضع الاقتصادي المتأزم في البرازيل لحظة تولي الرئيس دا سيلفا الحكم كان اشبه بالوضع الحالي في مصر مثل زيادة معدلات التضخم وارتفاع مستويات الدين الداخلي والخارجي وتناقص الاستثمارات الاجنبية والنقص الحاد في توصيل الكهرباء الى مناطق عديدة في البرازيل والخسائر المتوالية للبورصة وتردي مستوى التعليم وانتشار الفقر وبالتالي التسرب من التعليم. حتى المخاوف من انتماء دا سيلفا لليسار وأنه ينحدر من اسرة شديدة الفقر، وبالتالي جاء لينتقم من الاثرياء ويؤمم ثرواتهم هي نفسها المخاوف من وصول رئيس ينتمي لجماعة الاخوان الى مصر، والظن بأنه جاء لينتقم من الناصريين واليساريين والعمل فقط لصالح جماعته. وحتى يتغلب الرئيس البرازيلي السابق على كل هذه المعضلات، استوعب الاثرياء وأدرك أنهم أيضا أصحاب حقوق ولهم مصالح، لو اطمأنوا عليها لن يغلقوا مصانعهم او يحولوا استثماراتهم للخارج، وفي نفس الوقت وضع برنامجا للقضاء على الفقر باسم "بولسا فاميليا" قام من خلاله بترشيد الدعم ليكون موجها للتعليم، لان اقتصار الدعم على الطعام والوقود سيجعل البرازيليين يتوارثون الفقر. وحدد الاسرة الفقيرة بتلك التي يقل دخلها عن 28 دولارا، واشترط لتطبيق خطة الاعانات الاجتماعية المباشرة التزام الاسرة بارسال اطفالها للتعليم والالتزام بالحصول على الامصال واللقاحات بشكل منتظم. وآيات نجاح هذا البرنامج ان 20٪ من سكان البرازيل كانوا عام 2009 تحت خط الفقر ومع عام 2011 انخفضت النسبة الى 5٪ فقط. كما ان نصف سكان البلاد زاد دخلهم خلال السنوات العشر الاخيرة بنسبة 68٪. هذه النجاحات لم تتم بسهولة ويسر، فقد بدأت بسياسة اقتصادية شديدة التقشف، اعتمد فيها دا سيلفا سياسة الصدق والمصارحة مع الشعب وطالب الناس بالصبر على الصعوبات الاقتصادية التي عانى منها معظم الشعب وتحملها الجميع، لكنها أدت في النهاية الى خفض عجز الموازنة وارتفاع التصنيف الائتماني للبلاد، وبالتالي وضعت حدا لانعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي، ومن ثم تدفق الاستثمارات الاجنبية لتصل الى 200 مليار دولار خلال الفترة من 2004 حتى 2011. وحتى يمكن الاستفادة من التجربة البرازيلية - كما تشير دراسة لمركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية - يجب توفير الرؤية الواضحة والارادة السياسية القوية والصدق والشفافية في التعامل مع المصريين. لقد توجه دا سيلفا مباشرة الى شعبه يطلب دعمه لسياسات التقشف، واعلن بكل شجاعة انه لا مفر من الالتزام بهذا البرنامج القاسي للخروج من الازمة الاقتصادية. وعلى النقيض- كما ترى نفس الدراسة- فقد اتبعت الحكومات المصرية المتعاقبة بعد الثورة اسلوب المغالاة في اعطاء الوعود بتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال اتخاذ اجراءات فورية مثل: رفع الحد الأدنى للاجور والالتزام بتعيينات حكومية على نطاق واسع وغيرها من السياسات التي لم تتخذ في إطار رؤية شاملة وبرنامج مدروس للنهوض بالاقتصاد المصري، وبالتالي لم تخرج هذه القرارات عن كونها مسكنات هدفها تهدئة الشارع وكسب رضائه، ولم يمتلك بعض المسئولين في السلطة شجاعة الاعتراف الصادق بحقيقة الامكانيات المتاحة وما يمكن تقديمه لتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الفقر.. ولا ننسى ايضا دور المواطن البرازيلي الفقير الذي كان العامل الاول والحاسم في نجاح برنامج دا سيلفا، فقد آمن انه بدون عمل وكد واجتهاد لن يستطيع ان يخرج من أسر الفقر وكان أن زاد الانتاج وبالتالي الصادرات حتي بلغ احتياطي النقد الاجنبي للبرازيل 375 مليار دولار، ووصل الناتج المحلي الاجمالي الى 2.3 تريليون دولاره وانخفض معدل البطالة الى 5.4٪ ... العمل هو الحل. نقلا عن جريدة أخبار اليوم