لم يبدأ البحث عن بابا جديد في 15 مارس باجتماع مجلس الكرادلة المؤلف من 117 عضواً، والذي يشكل الهيئة الناخبة لمنصب البابا.. ولا حتى بإعلان البابا بنديكتوس السادس عشر استقالته يوم الحادي عشر من فبراير الماضي. لعل البحث بدأ في يوليو من عام 2010، عندما زار البابا مدينة سيلمونا في إيطاليا، وتوقف أمام ضريح البابا الأسبق سيلستين الخامس لمناسبة ذكراه الثمانمئة. فقد تعمد بنديكتوس أن يترك فوق الضريح الوشاح الصوفي الذي يضعه حول عنقه، لا نسياً ولا تناسياً. فالبابا سيلستين الخامس هو البابا الوحيد الذي استقال بإرادته وبقرار منه في عام 1294. أما الباباوات الآخرون فقد أجبروا على الاستقالة. وكان منهم البابا مارتن الأول الذي اتُهم بالخيانة وعزل في عام 653، وحُكم عليه بتجريده من ملابسه وبعرضه عارياً أمام الناس عقاباً له. وكان آخر من استقال من البابوات في عام 1415، هو البابا غريجوري الثاني عشر، وذلك عندما واجهت الكنيسة أزمة في القيادة عرفت بأزمة "الانشقاق الكبير". في شهر شباط 2013، فهِمَ الكرادلة وكبار موظفي الفاتيكان المعنى الضمني لمبادرة بنديكتوس السادس عشر في ترك وشاحه البابوي فوق ضريح سيلستين الخامس. ومنذ ذلك الوقت بدأ الصراع الخفي على الخلافة. والسؤال هو: لماذا اتخذ البابا قراره بالاستقالة، وهو يعرف أنه يشكل بذلك سابقة تاريخية جديدة؟ صحياً كان البابا يشكو من ضعف في القلب. إلا أن حالته الصحية لم تكن سراً شخصياً فقط، بل كانت سراً من أسرار الفاتيكان. ولا يعرف ما إذا كان مجلس الكرادلة، عندما انتخبه في عام 2005 خلفاً للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني، كان على علم بحالته الصحية. وللإيحاء بأن قراره بالاستقالة يعود إلى أسباب صحية، تعمّد الإعلان عن ذلك في يوم ذكرى "ظهور مريم العذراء" في بلدة لورد في جنوبفرنسا. وهو يوم أعلنته الكنيسة "يوم المرضى". ولكن لا يمكن في الوقت ذاته استبعاد مطلق لاحتمال وجود أسباب أخرى. فالحاكم المركزي لبنك الفاتيكان اعترف بأنه كان يمارس عملية تبييض العملة، الأمر الذي شوّه سمعة الفاتيكان، ما حمل البابا على طرده وتعيين حاكم جديد بدلاً منه. وانفجرت في وجه البابا فضائح اتهام عدد كبير من الأساقفة في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالاعتداء الجنسي على الأطفال، كما اتهمت الكنيسة بالسكوت عن تلك الفضائح وتغطية مرتكبيها. وتزامناً مع هذه القضية الأخلاقية التي آلمت البابا كثيراً، فتحت في وجهه أيضاً ملفات طالما اعتبرها مناقضة للعقيدة المسيحية ومنها الدعوة إلى زواج الأساقفة، وتعيين أساقفة من النساء (كما يفعل الإنجيليون)، ومنها إقرار زواج المثليين والإجهاض والطلاق وتحديد النسل، وهي قضايا أقرتها كنائس إنجيلية أيضاً. إلا أنها تتناقض مع إيمانه المتحفظ، بل شديد التحفظ، وقد تمسك بقواعد التشدد طوال السنوات الثماني من تبوئه السدة البابوية، ولم يخرج عنها إلا بقراره بالاستقالة. فكان قراراً ثورياً وانقلابياً على كل القواعد التي التزم بها الباباوات من قبل، وكان آخرهم البابا يوحنا بولس الثاني. فقد استمر في موقعه على رغم مرضه الشديد وإصابته بالباركنسون وتقدّمه في السنّ. وقد أثار البابا بنديكتوس خلال فترة بابويته التي استمرت ثماني سنوات مشاكل مع كل من المسلمين واليهود والإنجيليين الإنجليكان وحتى مع المتشددين من المسيحيين الكاثوليك. وتعود المشكلة مع المسلمين إلى محاضرة ألقاها في عام 2006 في جامعة ريتسنبورغ في ألمانيا بعد وقت قصير من انتخابه، استشهد فيها بحوار جرى في القرن الرابع عشر بين الإمبراطور البيزنطي عمانويل الثاني وأحد العلماء المسلمين الفرس. وكان طبيعياً أن ترتفع أصوات إسلامية مستغربة ومنددة ومستنكرة. وكان ردّ البابا على ذلك أنه كان ينقل كلاماً عن الإمبراطور، إلا أنه لم يقل صراحة إنه لا يتبنى قول الإمبراطور. ولابد من الإشارة هنا إلى أنه في عام 2006 كان الإسلام يتعرض لحملة تشهير غربية باعتبار أنه مصدر للإرهاب والعنف. ولذلك بدت أقواله حتى وإن لم يكن يقصد، وكأنها تقع في إطار هذه الحملة. وتعود المشكلة مع اليهود إلى إصراره على المضي قدماً في تطويب البابا بيوس قديساً، وهو الذي يتهمه اليهود، بالتعاون مع النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. ولذلك يعتبرون تقديسه تكريماً لدوره في عدم الدفاع عن اليهود في إيطاليا أثناء الاحتلال النازي. وتتمثل المشكلة مع الإنجيليين الإنجليكان، بدعوته رعايا الكنيسة إلى التخلي عنها، والالتحاق بالكنيسة الكاثوليكية، علماً بأن الملكة أليزابيت هي رأس هذه الكنيسة! أما مشكلته مع المتشددين الكاثوليك، فتتمثل في رفع الحرم الكنسي عن "جمعية القديس بيوس العاشر" وهي جمعية ترفض الاعتراف بمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني 1965 التي تدعو إلى تجديد وعصرنة الكنيسة وانفتاحها على الأديان الأخرى بما فيها اليهودية والإسلام. لقد تم حتى الآن انتخاب 265 باباً، ولم يستقل منهم سوى خمسة. والبابا بنديكتوس السادس عشر كان سادسهم. وكان أول بابا ألماني يصل إلى السدة البابوية منذ أكثر من نصف قرن. وجاء بعد ستة عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أُلزم بالانضمام إلى "الشبيبة النازية" كغيره من الشبيبة الألمان. ولما انتخب كان يبلغ من العمر 78 عاماً، أي انه كان أكبر مرشح للبابوية منذ عام 1730. ونظراً لعدم وجود سوابق حول أي لقب يعطى للبابا المستقيل بعد استقالته. وهل يتخلى عن اسمه الباباوي بنديكتوس، ويعود إلى اسمه الأصلي ريتسنجر؟ وكيف يكون التعامل معه "كممثل سابق للمسيح على الأرض".. فإن الفاتيكان وجد نفسه منشغلاً بقضية ما بعد البابا بنديكتوس أكثر من انشغاله بقضايا ما بعد انتخاب خلفه. أما بنديكتوس نفسه، فيعرف جيداً كيف يقضي بقية عمره. فهو رجل أكاديمي، وصدرت له عدة مؤلفات تميزت بالعمق، بما فيها كتابه عن "المسيح ابن الناصرة". كان البابا المستقيل، وهو ابن شرطي من ولاية بافاريا الكاثوليكية في جنوبألمانيا، لعب دوراً فكرياً مهماً في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يوصف بأنه المجمع الذي صالح الكنيسة مع العصر ومع الأديان الأخرى، إلا أنه وقف ضد الحركات الكنسية المتحررة في أمريكا الجنوبية منذ مطلع الثمانينيات عندما تبوأ منصب رئيس مجلس العقيدة في الفاتيكان. وفي عام 2000 أصدر الوثيقة الفاتيكانية الشهيرة "دومينوس جيسوس" التي اعتبر فيها أن الحقيقة المسيحية تكمن في "الكاثوليكية" وحدها. إلا أنه لأسباب صحية، ولأسباب عديدة أخرى، لم يعد قادراً على الدفاع عن هذه الحقيقة المطلقة. فاتخذ أهم قرار في حياته الكهنوتية، وهو قرار الاستقالة من منصبه! ومن أهم الأسئلة التي طرحتها هذه الاستقالة، معنى أن يكون لدى الفاتيكان بابا جديد وبابا سابق. والاثنان يعيشان في الحرم الفاتيكاني ذاته. وتنطلق أهمية هذا السؤال من سؤال آخر، وهو ما الموقف إذا اتخذ البابا الجديد قراراً أو موقفاً مخالفاً لقرار أو لموقف سبق أن اتخذه البابا المستقيل؟ أو إذا عارض البابا المستقيل إجراء يدعو إليه البابا الجديد؟ ولذلك فإن قرار بنديكتوس السادس عشر الاستقالة يعتبر أهم قرار - وأجرأ قرار- اتخذه طوال الأعوام الثمانية من اعتلائه السدة البابوية، ذلك أن هذا القرار قد يغير من الطبيعة البابوية في المستقبل على نحو لا سابق له. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية