أزمة انعدام الثقة، التي باتت واضحة الآن بين جماعة الإخوان المسلمين من جهة، وحزب النور من جهة أخرى، ربما هي الأبغض بين الخلافات السياسية المطروحة على الساحة الآن لأسباب عديدة، أهمها، أن الفصيلين ينطلقان أيديولوجيا من معين واحد، هو الشريعة الإسلامية، فلا الإخوان ينكرون السلف الصالح الذي هو محور بناء حزب النور، ولا النور ينكر على الجماعة إيمانها بأن الإسلام هو الحل، وفي هذه الحالة يصبح، أيضا، الهدف واحدا، وهو شرع الله، انطلاقا من الكتاب والسنة معا، حتى وإن اختلفت التفاصيل، أو اختلفت الأولويات، طبقا لطبيعة المرحلة. إلا أن ما بدا من انتقادات لاذعة هنا، أو هجوم عنيف هناك، فتح باب المهاترات واسعا داخل هذه وتلك، ناهيك عن باب المزايدات أمام المتربصين لهؤلاء وأولئك على السواء، وكانت النتيجة هي فقدان ثقة المواطن الطبيعي في الفصيلين معا، وإن تفاوتت النسب بينهما على اعتبار أن الشريعة الإسلامية من المفترض أنها توحد ولا تفرق، وتجمع ولا تشتت، أما وإن كان الوضع هكذا، فالإسلام ليس هو المعين، أو الهدف، ومن ثم، فليخلعا معا هذه العباءة، وليبدآ مرحلة جديدة من العمل السياسي بمنأى عن استخدام الشعارات الدينية، أو بمعزل عن استخدام الدين في التأثير على الرأي العام، الذي سوف يلفظ بمرور الوقت، هذه الممارسات نتيجة فقدان الثقة في الطرفين معا. فقد بدا واضحا أن اللعبة السياسية هي الحاكمة، والنظرة الضيقة هي المتحكمة، ومرارة الماضي هي المسيطرة، والأهواء الشخصية هي المتسلطة على صناعة القرار، وإلا لما تأزمت الأوضاع إلى هذا الحد الذي لم يبادر فيه رجل رشيد من أي جانب إلى الظهور في العلن، أو حتى الخفاء، لسد ثقوب هذه السفينة التي إن تعثرت عن الإبحار فسوف يغرق معها من أسهموا في غرقها، ومن التزموا الصمت على السواء. وعلى الرغم من أن المشهد السياسي الحالي في عموم بر مصر يئن من الأزمات والقضايا الشائكة، وأن المتصدرين هذا المشهد في وضع لا يحسدون عليه، فإننا يجب أن نقر بأن النسبة الكبرى من الشعب قد أولت ثقتها لهذا الفصيل وذاك، انطلاقا من أننا شعب متدين بطبيعته، يؤمن بالله الواحد حتى قبل ظهور الأديان، وأملا في ترجمة لغة الخطاب المتسامح إلى واقع ملموس، إلا أنه مع تلك الممارسات المؤسفة، سوف تتراجع هذه الثقة سريعا، ليس من خلال صناديق الانتخابات فقط، وإنما على كل الأصعدة الحياتية، وقد بدأت تظهر في الأفق مقدمات رد الفعل هذه. نحن إذن أمام أزمة ما كان يجب أن تكون، وإذا كنا نسعى إلى حوار وطني بين مختلف الفصائل السياسية في إطار جهود لم الشمل بين الأطياف المتنافرة، فكان الأجدر بالقوى السياسية الإسلامية الموجودة على الساحة أن تقدم النموذج والقدوة في هذا المضمار، وألا تتحول إلى شيع وأحزاب يصعب حصرها، لمجرد أن واتتهم الفرصة للخروج من القمقم، أو بمعنى أصح من غياهب سجون ومعتقلات كانت تئن من أعدادهم على مدى عقود عديدة، سددت خلالها أسرهم وعائلاتهم ضريبة باهظة من المعاناة والقهر، في ظل أنظمة لم تكن تعترف بالرأي الآخر، فما بالنا إذا كان إسلاميا؟! سوف لن يقبل الناس كل الناس من هؤلاء وأولئك خطبا عصماء على المنابر، فما بالنا بالخطب السياسية في الميادين والسرادقات؟!.. ولن يقبل أحد من أي منهم المزايدة على معاناتهم مع الحياة، كما لن يقبل باستمرار تجربة قامت على التنافر والشقاق والعداء حتى مع من توافقت برامجهم السياسية، كما لن يقبل بصراع لا يستند إلى منطق أو مبررات مقبولة، وبالتالي فإن الفشل هنا سوف يتحول إلى عار يلطخ النظرية الإسلامية ككل، سوف تمتد آثاره إلى عقود أخرى ربما لا تستطيع الأجيال الحالية محو آثارها، إلا أن كتب التاريخ سوف تسطر للنخبة من هؤلاء وأولئك أنهم خوارج العصر. كان من المفترض.. أن تقدم الأحزاب الإسلامية، على مختلف مشاربها، النموذج في الوفاق، والنموذج في الحكمة، والنموذج في الإيثار، والنموذج في ضبط النفس، انطلاقا من قول الله سبحانه: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فالقيادة في الإسلام تقوم على الصبر واصبر وما صبرك إلا بالله، والصدق،.. اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، والرحمة، فبما رحمة من الله لنت لهم، والعفو، خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، ومراجعة الآخر، وشاورهم في الأمر، والسلوك الإسلامي، سواء في العمل السياسي أو في غيره، يجب أن ينطلق في كل الأحوال من كتاب الله عز وجل ما فرطنا في الكتاب من شيء، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وحين ذلك يصبح هناك دستور حقيقي يمكن الاحتكام إليه كلما استحكمت حلقاتها، أما وإن تجاوز البعض ذلك السلوك الإسلامي إلى سلوك الفضائيات وإغراءات السلطة، فالأمر جد خطير، يحتاج إلى وقفة مع النفس، ومراجعة الضمير، بمنأى عن الأهواء، وبمنأى عن بريق السلطة التي أفسدت السابقين، وأصبحت تلقي بظلال واضحة على اللاحقين، وما هؤلاء وأولئك إلا ضحايا للنفس البشرية الضعيفة من جهة، ولمستشاري السوء من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يجب تداركه من خلال أهل الثقة في الجانبين، وأعتقد أنهم كثر. وأعتقد أن التوافق بين حزبي الحرية والعدالة، والنور، سوف يمثل النواة لجمع شتات بقية الأحزاب الإسلامية، وسوف يصب ذلك في مصلحة التهدئة العامة بالشارع المصري ككل، أملا في إيجاد الصيغة المناسبة للتعامل مع الأحزاب والائتلافات المناوئة الأخرى، التي ترفض أساسا وجود أحزاب إسلامية بالساحة السياسية، إلا أن القفز على هذه المراحل بالدعوة مباشرة إلى حوارات وطنية مع الأحزاب الرافضة، دون إصلاح ذات البين، أو دون ترميم الثقوب الآخذة في الاتساع بين الأحزاب الإسلامية، لن يؤتي ثمارا بأي حال، ولن يكتب لها النجاح تحت أي ضغوط، والدليل على ذلك ما أفرزته الحالة الراهنة، حيث سارعت كل القوى السياسية تقريبا إلى إصدار بيانات الإشادة والإجادة لمبادرة حزب النور الأخيرة لمجرد أنها جاءت غير متوافقة مع توجه الحرية والعدالة، وليس لتوافقها مع رؤية هذه القوى، التي لم تقبل في يوم ما، ولن تتقبل في المستقبل، أن يتصدر حزب النور المشهد السياسي، إلا أنها قد وجدت الفرصة سانحة لاستغلال الموقف أسوأ استغلال، من أجل توسعة الهوة بين الحزبين الكبيرين على الساحة. إلا أنه.. وإحقاقا للحق، فإن حزب الحرية والعدالة، وجماعة الإخوان المسلمين بصفة عامة، هما اللذان يجب أن يوجه إليهما اللوم، ويتحملان المسئولية عن خروج حزب النور عن دائرة التنسيق معهما، فهو الذي كان سندا قويا في الانتخابات الرئاسية، وسندا قويا في الاستفتاء على الدستور، كما كان أيضا في معظم المليونيات والمواقف السياسية، إلا أنه بدا واضحا أنه كلما حانت الفرصة للاستغناء، لم يتردد الحرية والعدالة في استغلالها، وهي السياسة الإخوانية العتيقة التي كان يجب إعادة النظر فيها مع وصولهم إلى سدة الحكم، وذلك بالاستعاضة عنها باستخدام سياسة الاحتواء والتقريب، وليس الإقصاء والتفريق، وخاصة أن المباراة تبدأ الآن، وليس العكس، كما أن حزب النور أيضا قد تسرع هو الآخر كثيرا في اعتماد سياسة الخروج عن الجماعة، كرد فعل لممارسات أزعجته أحيانا، وآلمته في أحيان أخرى، وبالتأكيد فإن هذا الخروج لم يكن محسوبا بما فيه الكفاية، وذلك لأنه يحقق مكاسب آنية ومؤقتة، إلا أنها لا تستمر على المدى الطويل، لأسباب عديدة، أهمها أن هؤلاء وأولئك في سلة واحدة لدى رجل الشارع، شئنا أم أبينا. فما يجب.. أن ندركه جميعا، هو أن العالم الخارجي، على سبيل المثال، لا يتحدث- سواء على مستوى المسئولين أو على مستوى وسائل الإعلام عن تيار إسلامي بعينه في مصر، أو حتى في غيرها، وإنما يكون الحديث دائما وأبدا عن التيار الإسلامي ككل، والسؤال المطروح دائما وأبدا هو: ماذا لو وصل الإسلاميون إلى سدة الحكم؟، وما موقف الإسلاميين من إسرائيل ومن اتفاقية السلام؟، وما موقف الإسلاميين من الأقباط، والمرأة، وحقوق الإنسان؟، كما أن الليبراليين واليساريين وغيرهما بالداخل سوف يظلون في حالة استنفار دائم، سواء كان على رأس السلطة إخوان، أو سلفيون، أو غيرهما، من التيارات الإسلامية الأخرى، وهو ما يؤكد أن جميع هذه التيارات في الهم سواء، أرادت، أو لم ترد، شاءت أم أبت، ومن هنا يأتي دور الأحزاب الإسلامية الأقل حجما، والتي أصبحت تتعاطى السياسة فقط من خلال الفضائيات، على طريقة الأحزاب الليبرالية التي أصبحت ترى في هذه الفضائيات النموذج الأيسر في الوصول إلى رجل الشارع، إلى أن انقلب السحر على الساحر، وأصبح المشاهد يرى فيها الإزعاج والتوتر، وليس ذلك فقط، بل الترويع والتخريب. وقد يرى.. بعض قصار النظر في هذه السطور تحيزا للتيارات الإسلامية على حساب غيرها من التيارات السياسية الأخرى، إلا أن ما أود تأكيده هو أن المجتمع لا يتحمل، لا الآن ولا في المستقبل، صراعا بين الإخوان المسلمين من جهة، والسلفيين، وتحديدا حزب النور، من جهة أخرى، فهما الحزبان الأكثر انتشارا على الساحة الآن، والدليل على ذلك نتيجة انتخابات مجلسي الشعب والشورى الأخيرين، ومن ضيق الأفق أيضا أن يتصور البعض أن شعبية الحزبين قد تراجعت في الشارع خلال الأشهر الأخيرة، وذلك لأنهما الحزبان الوحيدان الملتصقان بالشارع طوال الوقت سواء في الوجود مع المواطن في أفراحه وأتراحه، أو في تقديم الخدمات اليومية، وذلك في غياب القوى الأخرى التي اعتادت البكاء والنحيب عقب كل انتخابات، وكل استفتاء، سواء قبل الثورة أو بعدها، وأخذت تبحث عن الكوتة تارة، وعن فرض وجودها بالابتزاز والتهديد والوعيد تارة أخرى، إلا أنها أبدا لم تستوعب الدرس، وهو ضرورة التعامل المباشر مع الجماهير بمنأى عن الميادين وأحداث الشغب. سوف يظل حزبا الحرية والعدالة، والنور، لسنوات طويلة مقبلة، هما الأكثر حضورا، والأكثر تمثيلا، لسبب رئيسي، وهو أنهما ليسا حدثا عارضا بعد الثورة كغيرهما من قوى عديدة، وإنما ذلك كان نتاج عقود طويلة من العمل الدءوب في السر والعلن، وقد واجها معا خلال تلك العقود عقبات وملاحقات غير آدمية، ربما لم تجد استنكارا من كثير من القوى السياسية الموجودة على الساحة الآن، إلا أن ما يجب تأكيده هو أن تلك العقود، بهذه المعاناة، كان يجب أن تصقل خبراتهما بما فيه الكفاية للتعامل مع المواقف الحالية بصورة أكثر ذكاء وفطنة، فما بالنا إذا كان الأمر يتعلق بعلاقاتهما معا، وخاصة أنهما يقودان الأمة الآن في مرحلة ربما هي الأخطر في تاريخها، في ظل ما يحاك بها في الداخل، وما تواجهه من مؤامرات في الخارج، فهناك في الداخل من يترصد للسطو على مقاليد الحكم، حتى لو كان ذلك على غير رغبة الشعب، وهناك في الخارج من يأبى أن تنجح التجربة المصرية، حتى وإن أنفق في سبيل ذلك أموالا طائلة، وهؤلاء لا ينكرون مسعاهم، كما أن الآخرين يجاهرون بمبتغاهم!. على أي حال.. نحن هنا نخاطب قوى وطنية، لا أحد يمكن أن يشكك في انتمائها، وهي في الوقت نفسه قوى إسلامية، لا أحد يمكن أن يزايد على تاريخها، وهي في الوقت نفسه سلطة تنفيذية وبرلمانية، لا أحد يمكن أن ينتقص من شرعيتها، إلا أنه قد آن الأوان لأن تكون هذه القوى على مستوى الأحداث، في هذه المرحلة الراهنة، وذلك باحتواء مثل هذه الأزمات الصغيرة، والتفاعل بصورة أوسع وأكبر مع القوى الأخرى، وخاصة الوطنية منها، أما الأطراف المارقة التي تعمل ليل نهار على إشعال الفتن والتوتر والاستقواء بعواصم أجنبية تارة، ومنظمات دولية تارة أخرى، فقد آن الأوان لاجتثاثها من العملية السياسية ككل، وذلك لأن المجتمع لن يستطيع أن يتحمل أكثر من ذلك، ولن يتأتى هذا أو ذاك إلا من خلال توافق واضح وجاد بين الحزبين الرئيسيين في السلطة، ولن يتأتى ذلك أيضا، إلا بإخلاص النيات، واليقين بأن السفينة واحدة، وأنتم أولى الضحايا، وما الماضي منا ببعيد. تحذير الخارجية الأمريكية! جاء تحذير وزارة الخارجية الأمريكية لمواطنيها من السفر إلى مصر, الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست" أمس, ليؤكد أن المارد الأمريكي مازال يعبث بأمن العالم, من خلال توجيه بوصلة السياحة والسفر العالمية بالطريقة التي تروق له, وذلك لأن التحذير الأمريكي يلقي بظلاله سريعا على معظم الدول التي تنطلق منها الأفواج السياحية إلى مصر, ومن ثم سوف تستتبعه تحذيرات أخرى من عواصم عدة, على اعتبار أن ذلك المارد يعلم ما لا يعلمه الآخرون!. وإذا كان ذلك التحذير ينتهي في الرابع من مايو المقبل فسوف يحق لنا أن نفكر في الذي تضمره الولاياتالمتحدة لمصر على مدى ثلاثة أشهر مقبلة, سواء من خلال عملائها في الداخل, أو الخارج, فكعادة منطقة الشرق الأوسط, إذا أردت أن تبحث عما وراء الأزمات, فسوف تجد المخابرات الأمريكية, وإذا أردت أن تنقب عن ما وراء الكوارث, فسوف تجد الموساد الإسرائيلي, وإذا أردت أن تكتشف ما وراء التوتر والقلاقل, فسوف تجد عملاء هذه وتلك, فما الذي يحاك لمصر وأهلها خلال الشهور المقبلة؟! هذا ما ستجيب عنه الأحداث. إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن بؤر التوتر في مصر لا تخرج عن منطقتين محددتين بوسط القاهرة, أي بعيدا عن المواقع السياحية, ومن ثم فإن السائحين في مصر في أمان, وإلا لما شهدت الحركة السياحية تقدما ملحوظا في الآونة الأخيرة, أضف إلى ذلك أن القاهرة ذاتها قد شهدت خلال اليومين الماضيين مؤتمرا على مستوى القادة, لم يحدث خلالهما ما عكر من صفو المؤتمر, أو ما من شأنه الإزعاج للضيوف والمراقبين على السواء. وفي هذه الآونة, أيضا, شهدت مصر عودة كانت مهمة لمسابقة الدوري العام, وتشهد غدا بدء المرحلة الثانية من العام الدراسي على كل مستوياته, وذلك في الوقت الذي تستعد فيه البلاد لإجراء انتخابات برلمانية على مستوى كبير من الأهمية, بينما يجري الحديث عن حوارات وطنية لتهدئة الساحة السياسية. إلا أنه قد بدا واضحا أن الإدارة الأمريكية لا يروق لها هذه التهدئة, أو هذا الاستقرار, لبلد كان من المهم أن يخرج من هذه العباءة, التي أعتقد أنها كانت مطلبا رئيسيا من مطالب الثورة, وهو الاستقلال الحقيقي, وعدم التبعية لقوى دولية كانت هي الأكثر إثارة للجدل على مدى تاريخنا الحديث, من خلال علاقات كانت قائمة دائما على الريبة والشك. عموما.. هذا التحذير الأمريكي يرقى لدرجة الاطمئنان إلى أننا نسير على الطريق الصحيح, وكل ما في الأمر هو أنهم لا يريدون ذلك, إلا أنه علينا أن ننتبه إلى أن شيئا ما في الأفق, وأن أمرا ما يدبر لأرض الكنانة, وكلنا ثقة في أجهزتنا الأمنية, وقواتنا المسلحة بشكل خاص, وما على المتحزلقين تحت مسمى القوى السياسية إلا أن يعوا الموقف. نقلا عن جريدة الأهرام