تبحث مؤسسة الرئاسة، كما هو حال بعض القوى السياسية الآن في مصر، عن رجل رشيد تثق فيه الأطراف المختلفة للقيام بدور وساطة في الأزمة السياسية الناشبة حول الدستور والدستورية والاستفتاء والرئيس والصلاحيات والتحصين.. إلى آخر ذلك مما هو مطروح على الساحة الآن، إلا أن العثور على هذا الرجل الرشيد يبدو أنه أصبح أمرا صعب المنال في وطن يعيش فيه 90 مليون نفس، نتيجة عدم الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف، ونتيجة التصنيف الحاصل في المجتمع لكل من أدلى برأي، أو شارك بفعل يخالف هوى أولئك أو معتقدات هؤلاء. وقد كنا نعتقد أنه حين البحث عن رجل رشيد سوف تكون المشكلة هي كثرة عدد الأسماء المطروحة في مجتمع صال وجال رشداؤه في المجتمعات الأخرى من حولنا، كخبراء تارة، ومستشارين تارة أخرى، وصناع دساتير وقوانين لهذه المجتمعات في كثير من الأحيان، وقد شهدت لهم تلك المجتمعات أيما شهادة، بعد أن تركوا بصمات مصرية واضحة في المجالات المختلفة من تعليم وصحة وصناعة وزراعة وثقافة، وقد عاد كثيرون منهم إلى الوطن دون أدنى محاولة للاستفادة من خبراتهم، بينما ظل البعض حتى الآن يواصل مسيرة العطاء خارج الحدود- إلا أنه وفي كل الأحوال سوف يظل هؤلاء وأولئك ذخيرة مصرية حية ونابضة في انتظار الفرصة التي تسمح باكتشافهم. ولأننا الآن أحوج ما نكون إلى هذه الأدمغة المهاجرة بأطيافها المختلفة; فقد كنا نأمل في محاولة جادة لحصرها ودعوة ولو نسبة منها للانخراط في المجتمع سياسيا واجتماعيا، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث، بل حدث العكس تماما حينما فضلت بعض أدمغة الداخل الانزواء والانطواء على اعتبار أننا نعيش عصر فتنة كبرى قد يكون اعتزال المجتمع خلالها أجدى من المشاركة، وهو ما جعل قوى شاردة تجوب شرقا وغربا بدعوات العصيان تارة، وإسقاط النظام تارة أخرى، وقوى أخرى تدعو إلى الصدام والانتقام دون وضع حسابات العواقب في الاعتبار، لا من أولئك ولا هؤلاء. الأمر المؤكد هو أن الرشداء في مصر كثر، إلا أن أصحاب الصوت العالي قد تصدروا المشهد سياسيا، وأصحاب المصالح دعموه ماليا وإعلاميا، والأمر المؤكد هو أن هؤلاء وأولئك قد تجاوزوا كل الخطوط على اختلاف ألوانها، في انفلات واضح لن يستطيع الشارع تحمله أكثر من ذلك، والأمر المؤكد هو أن هذه الممارسات قد وضعت المجتمع الآن أمام مفترق طرق تؤدي جميعها في النهاية إلى صدام، حيث لم يعد أحد يستطيع التكهن بمجريات الساعات القليلة المقبلة، إلا أن الأمر المؤكد أيضا، هو أن هذه هي مهمة الدولة الرسمية نحو ضرورة حسم هذه الأوضاع وذلك الانفلات الذي إن استشرى أكثر من ذلك فقد تستحيل السيطرة عليه. فالبحث عن رجل رشيد.. هو مهمة الدولة، والبحث عن مخرج من المأزق الراهن يجب أن يكون مهمة السلطة، كما أن حماية مكتسبات الثورة والبناء عليها لن تكون أبدا من خلال هتافات غير واعية، أو تجمعات غير رشيدة، وبالتالي تصبح الدولة مطالبة الآن بأن تكون على مستوى المسئولية، وذلك بأداء دورها على أكمل وجه سياسيا وأمنيا واقتصاديا دون الالتفات لتشكيك في الداخل أو اتهامات من الخارج، وذلك لأن مصر وحدها في النهاية هي التي سوف تدفع الثمن، وشعب مصر وحده هو الذي سوف يسدد الفاتورة، واقتصاد مصر هو الذي سوف يتحمل العبء، وإذا حدث- لا قدر الله- ما لا تحمد عقباه، فالسلطة الرسمية فقط هي التي سوف توجه لها أصابع الاتهام، سواء بالتقصير، أو بالفشل، وغالبا ما سيكون بأقسى من ذلك بكثير. يجب أن نعترف بأن الساحة السياسية متخمة بالمؤامرات، وبالتالي تدرك السلطة الرسمية أن أي تسوية للأزمات المطروحة لن تكون مقبولة في ظل سقف مطالب سوف يرتفع مع كل تنازل، ويجب أن نعترف بأن القضية منذ الوهلة الأولى ليست قضية دستور ولا دستورية بقدر ما هي قضية إصرار على إسقاط النظام، ويجب أن نعترف بأن سياسة استعراض القوة في الشوارع على الجانبين لم تكن هي أبدا الأسلوب الأمثل لعلاج أمراضنا أو أزماتنا، ويجب أن نعترف بأن استمرار هذه الأزمات قد حال دون أي تقدم أو تطور في حياتنا المعيشية، كما يجب أن ندرك أن هناك من يراهن على استمرار هذه الأوضاع بهذا السوء، أملا في تحقيق مآرب أصبحت واضحة للعامة والخاصة على السواء. وعلى الرغم من صعوبة مهمة الرجل الرشيد في هذه المرحلة أو تجاه هذه الأزمات، فإن أهميتها قد تكمن في كشف مثل تلك المآرب وتقديمها للمواطن الطبيعي، الذي من حقه الآن أن يقف على أبعاد كل ما يدور حوله، وألا يظل فريسة لإعلام رجال الأعمال، أو لصراع قوى وأيديولوجيات ربما هو ليس معنيا بها، ولذلك فإن علانية الحوارات في مثل هذه الظروف تصبح أمرا مهما للغاية، وذلك بعد أن كشف المستشار محمود مكي، نائب رئيس الجمهورية، في حديثه ل"الأهرام" أمس الأول عن حوارات عديدة من هذا النوع أدارها بنفسه خلال الشهور الماضية مع قيادات سياسية مختلفة، كانت تشترط مقدما عدم الإعلان عنها لأسباب، أترك للقارئ استنباطها أو محاولة فهمها. أعتقد أن مصر يجب ألا تظل أبدا أسيرة لهذا النوع من الشطط، أو لمثل هذه الممارسات، كما أرى أن مصر تستحق منا أكثر من ذلك، وذلك بإعلاء المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية أو الحسابات الآنية، وإذا كنت قد طرحت في السابق دون جدوى الإبقاء في هذه المرحلة على دستور 1971 مع تعديل البنود الخاصة بصلاحيات رئيس الجمهورية، وذلك في محاولة للخروج من أزمة الدستور; فسوف أسمح لنفسي بطرح أسماء كل من الدكتور أحمد الطيب، والدكتور محمد سليم العوا، والأستاذ فهمي هويدي، والدكتور محمد نور فرحات، والمستشار عدلي حسين، والسيد محمود الشريف; ليشكلوا معا الرجل الرشيد الذي تبحث عنه مصر في هذه المرحلة، وأعتقد أن التاريخ المهني والوطني للشخصيات الست يؤهلهم للقيام بهذه المهمة على أكمل وجه. وإذا كانت.. رئاسة الجمهورية قد أعلنت موافقتها على تعديل النقاط الخلافية في الدستور للتوافق عليه، والتي قالت إنها لا تتجاوز 15 مادة، وذلك من خلال لجنة من أساتذة القانون الدستوري; فإن هذا أمر مهم يجب أن يوضع في الاعتبار، على أن تبني عليه لجنة الرشداء المقترحة للوصول إلى حلول لكل القضايا محل الأزمة، وتكون جهود هذه اللجنة متواصلة حول كل ما ينشأ من قضايا مماثلة، وحين ذلك فقط نكون قد أغلقنا الثغرة، أو لنقل الهوة التي كان يجب إغلاقها منذ أشهر عديدة مضت، وأعتقد حينذاك أن أزمة الثقة الحادة هذه سوف تزول ببدء عمل اللجنة التي سوف تصبح شاهدا وحكما في الوقت نفسه على كل ممارسات من شأنها العودة بنا إلى مربع الصفر، بل قد لا أكون مبالغا إذا قلت إن هذه الممارسات سوف تتوارى تدريجيا. لقد فتحت هذه الأزمة الباب واسعا أمام العواصم والمنظمات الأجنبية للتدخل السافر في شئون شعب كان الأجدر به أن يقود مثل هذه المجتمعات، بحكم عوامل تاريخية وثقافية لا حصر لها، إلا أن العكس هو الذي حدث بصنع أيدينا، فأصبحت الدولة المصرية تتصدر نشرات الأخبار العالمية بتهديدات من هنا ووعيد من هناك بتوقيع عقوبات اقتصادية وسياسية، وهو أمر يجب أن نخجل منه جميعا، حكاما ومحكومين، نخبة وعامة، إلا أننا قد رأينا سعادة على وجوه البعض، وترحيبا من البعض الآخر، في إشارة إلى عدم الإحساس بالمسئولية، وعدم تقدير للموقف، ولنا في دول عديدة بالمنطقة العبرة، بعدما عانى أطفالها ومواطنوها بصفة عامة من مثل هذه الإجراءات العقابية، حتى وإن كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الذين قد يتصورون الآن أنهم بمنأى عنها. ومع موافقة القيادة السياسية على فتح ملف الدستور من جديد; فسوف أظل أنبه إلى خطورة الإقصاء الذي طال في الأحكام الانتقالية منه أعضاء الحزب الوطني المنحل، وذلك لأن هناك حكما قضائيا سابقا قد حسم هذه القضية، أضف إلى ذلك أن الوضع الراهن كان يحتم النص على كل من تمت إدانته فقط، وما أمر الجماعة المحظورة في السابق ببعيد، وهي التي اكتوت بنار الإقصاء، وتلفيق التهم، وغلق مشروعات أعضائها.. إلى غير ذلك من مظالم عانتها آلاف الأسر دون مبرر، وقد كان الأجدر بحزبي الحرية والعدالة، والنور، بصفة خاصة، تقدير حجم هذا الجرم دون غيره من القوى السياسية الأخرى التي كانت على وفاق دائم مع النظام السابق. فالإقصاء.. في المجتمع هو الذي يفتح باب العمل السري، أو تكوين تنظيمات تعمل في الخفاء، وقد يكون هو اللهو الخفي، وقد يكون التمويل الذي يقف وراء العديد من الأزمات، والإقصاء لا يتناسب بأي حال مع المواطنة، ولا مع العدالة الاجتماعية، بل هو تصنيف سوف يضر بالمجتمع أكثر مما يفيده، وصناديق الانتخابات في النهاية هي التي سوف تستبعد الغث لحساب الثمين، إلا إذا افترضنا أننا شعب غير مؤهل للتعامل مع هذه الصناديق، وأستطيع الجزم بأن المشهد السياسي الحالي يؤكد غير ذلك، حيث ارتفاع درجة الوعي السياسي لدى المواطن، وخاصة في ظل المتغيرات التي طالت المجتمع في كل جوانبه، كما أستطيع الجزم بأن الرشداء فينا لن يوافقوا على هذا الطرح الذي بات واضحا أن الهدف منه هو تصفية حسابات كان يجب تجاوزها، وخاصة في هذه المرحلة التي تتطلب تضافر كل الجهود نحو النهوض والتقدم. على أي حال.. أعتقد أنه آن الأوان للغة الشوارع أن تختفي، لتحل بدلا منها المؤسسات الرسمية، تنفيذية كانت أو تشريعية أو حزبية، كما آن الأوان لمظاهر الفوضى أن تتوارى، حتى تسود سلطة الدولة والقانون، كما آن الأوان لأن نعتمد الحوار متحدثا رسميا لحياتنا الاجتماعية والسياسية، وأن يسود منطق العقل والحكمة الذي يمكن أن تنهل منه الأجيال القادمة، فلا يعقل أبدا أن تكون النخبة هي أزمة مصر في هذه المرحلة، ولا يعقل أن تكون الأجيال الجديدة ضحايا لصراع تلك النخبة، وفي الوقت نفسه لم يعد مقبولا أن تظل الدولة في وضع المتفرج أو المشاهد لما يحدث، دون اجراءات حاسمة على أرض الواقع تضع حدا لهذا النزيف من خسائر وقف الحال اليومية للمتاجر والمدارس، وإغلاق الشوارع والميادين باسم الثورة أو الحرية والديمقراطية، أما وقد استمر الوضع كذلك; فسوف يأتي اليوم الذي نترحم فيه على الثورة، ونكفر فيه بالديمقراطية، ونلعن فيه الحرية. نقلا عن جريدة الأهرام