نقلاً عن الشرق الاوسط 22/9/2007 جميل جداً أن تلاحظ بأم عينك في هذا الشهر الكريم قدرة الإسلام على إذابة فوارق اللغة واللون والحدود الجغرافية، تماماً كما جمع الإسلام من قبل بين صهيب الرومي وبلال الحبشي، جابان الكردي وسلمان الفارسي وغيرهم من شتى الأجناس والبلدان، فأنت تراه يؤلف في بلاد الغربة بين قلوب المهاجرين المسلمين من عرب، أفارقة، أوروبيين وهنود. إنها المشاعر القوية التي اختلجت في صدري وأنا أرى زحام المسلمين أمام مسجد باريس لأداء صلاة التراويح حتى أنك لا تجد مكانا تضع فيه إبرة وهم يمثلون لوحدهم كل أجناس العالم حتى يخال لك أنك أمام مؤتمر إسلامي مصغر. مثل هكذا منظر يفرغ مفهوم العلمانية من كل معانيه بل ويؤكد أنه من المستحيل تجاهل العامل الديني الذي أصبح يِِأخذ مساحة واسعة في هذا البلد ذي التقليد العلماني وهذا ليس كلاما في الهواء فحسب بل أن الإحصاءات تؤكد ذلك، فالإسلام هو ثاني ديانة في فرنسا والأول من حيث الانتشار. وقد تحدثت بعض الأرقام عن أكثر من 50 ألف فرنسي اعتنقوا الإسلام خلال العشرية الأخيرة من الزمن. ولعل أهم رموز هذه الظاهرة ما يحدث من انتشار لاعتناق الإسلام في ضواحي المدن أين يتمركز المهاجرون أو ظاهرة اعتناق نجوم كرة القدم الدوليين أمثال نيكولا أنيلكا، فرانك ريبيري، سيدريك سابان وأبيدال وآخرين للإسلام. التحولات الاجتماعية التي يشهدها النسيج البشري والعرقي لفرنسا منذ العقود الأخيرة والتي يميزها تزايد الثقل البشري للمسلمين (6 ملايين رسميا و8 حسب مصادر الجمعيات الإسلامية) أصبحت تؤثر بشدة في سير الخطاب السياسي الفرنسي؛ ومن أهم مظاهر ذلك انتشار جدل شديد حول إشكالات الهجرة بمناسبة وبغير مناسبة، حتى أصبحت مسألة الهجرة والمهاجرين على رأس كل برنامج انتخابي، وكأنه الموضوع الذي قد يحسم الأمر بالفوز أو الخسارة. بالإضافة إلى ذلك النقاش الدائم حول الطريقة المثلى لممارسة «الإسلام الفرنسي»، والذي يعبر عن تخوف شديد من تنامي الظاهرة واحتمال عدم التحكم فيها. فظهر السؤال الذي بات يحير أكبر الخبراء والسياسيين: ماذا نفعل بالإسلام داخل الجمهورية..؟؟ أو هل ينفع للمسلم أن يعيش ديانته داخل الجمهورية التي ترفع شعار العلمانية..؟ وكلها أسئلة عما هو المفروض عمله وما تفعله الدولة فعلاً على أرض الواقع ليس بالضخم، فهي ترفض لغاية الآن بتعنت شديد الاعتراف بالحجم الحقيقي للإسلام في هذا البلد وكأن مجرد الاعتراف بهذه الحقيقة قد يعطيه قوة أكبر بل ونرى السلطة السياسية وهي تمتنع باسم مبدأ العلمانية القاضي بفصل الدين عن الدولة، عن الإشراف على تنظيم المؤسسات الإسلامية تاركة المجال مفتوحاً أمام التدخل الأجنبي. ففرنسا التي تضم 6 ملايين مسلم توجد فيها فقط 1500 مسجد؛ معظمها ليست سوى غرف صغيرة داخل بيوت، أو مآرب شاغرة تديريها جمعيات صغيرة بعضها مخترق من طرف التيارات الأصولية، وأي مشروع لبناء مسجد يتعرض لعرقلة بيروقراطية كبيرة كما حدث مع مشروع بناء مسجد في شارع طنجة بباريس، والذي يرقد ملفه في غياهب الإدارة منذ سنوات، بينما تظل المساجد الكبيرة كمسجد باريس وليون ومرسيليا أدوات خاضعة للحسابات السياسية لمموليها الأجانب التي يستعملونها لخدمة مصالحهم الخاصة حتى تدريب الأئمة لا يخضع لأي تأطير ومراقبة تذكر ومعظمهم يأتي مبعوثاً مباشرة من وزارة الأوقاف التابعة للدول الأصلية للمهاجرين دون مراعاة خصوصية المجتمع الفرنسي. تهرب الدولة من تنظيم «الإسلام الفرنسي» والتكفل بمؤسساته أعطى نتائج كارثية؛ على رأسها أزمة تمثيل المسلمين، وهي الوضعية المعروفة التي نتجت عن الخلاف الدائم حول النفوذ بين الهيئات الدينية التي يُفترَضُ أن تمثل مسلمي فرنسا: ما بين كتلة «مسجد باريس» القريبة من النظام الجزائري والمصوتة تقليدياً لليمين، «الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا» المعروفة باعتدالها وقربها من النظام المغربي وبين «اتحاد المنظمات الإسلامية»، أكثر هذه الكتل تنظيماً وتشدداً والمعروفة بميولها لليسار. وسواء كان تأجيل قضية التعامل مع «الإسلام الفرنسي» إلى أجل غير مسمى عملية مقصودة أم لا، إلا أنه لا يمكن تجاهل ما يحدث الآن من ظهور نوع من الصحوة الدينية عند شباب الجيل الثاني من المهاجرين ممن وجد هويته في عقيدته الدينية حتى أصبح شعارهم في ذلك: «لست مغاربياً ولست فرنسياً بل أنا مسلم». وكأن التفاف هؤلاء حول عقيدتهم كان هو الحل لإثبات وجودهم في ظل التهميش الكبير الذي يعانونه في المجتمع الفرنسي، علماً أن بروز جيل جديد من الشباب الفرنسي المسلم كفيل بتغيير الخريطة الاجتماعية نظراً لدورهم المرتقب في الحياة السياسية والاقتصادية لهذا البلد. المعادلة إذن قد تصبح صعبة لهذا البلد ذي التقليد العلماني العريق بين احترام توجهه السياسي القاضي بفصل الدين عن الدولة وبين احتواء مسألة «الإسلام الفرنسي» التي أصبحت حقيقية اجتماعية لا مفر منها. لكن سياسة النعامة التي تنتهجها الدولة تجاه هذه القضية، والتي تجعلها تتجاهل الحجم الحقيقي لهذه الظاهرة (أو تتخوف منه..) وتفضل توكيل أيدٍ أجنبية للقيام بمهمة الإشراف على المؤسسات والهيئات الدينية في البلد ليست هي الحل بل ان احتواء هذه التحولات والقبول بالإشراف على كل شيء مع احترام مبدأ المساواة بين الأديان، كما ينص عليه الدستور الفرنسي، هي الطريقة المثلى لدمج المسلمين في المجتمع الفرنسي وسد الطريق أمام خطر الأصولية والطائفية