إرث ثقافي ومخطوطات نادرة، وثروات من الكتب موزعة في بيوتات اشتهرت بالعلم وحب الثقافة وولع الاقتناء منتشرة في مختلف أنحاء الإمارات... لكن ماذا تحوي تفاصيل هذه المكتبات؟ ومن يمكنه أن يستفيد منها؟ وأين تذهب إذا غاب أصحابها الذين جمعوها وعشقوها وأفنوا أعمارهم في خدمتها والاهتمام بها؟ وماذا عن أولئك الذين يعرفهم بعضنا، ممن يحتفظون بثروات مهمة عن تاريخ الإمارات تحديداً، والتي لا يمكن أن تتوافر إلا عندهم كما هو المصور نور علي راشد رحمه الله، والذي بقي في صناديقه المغلقة أكثر مما طبعه في حياته. والذي زاره وتعرف على مجموعته التصويرية عن قرب يستشعر بالخوف والحسرة على ذلك الكنز الفني الضائع، فأين هي تلك الثروة الآن التي كان بعضها مكدساً في استوديو بدبي، وأكثرها يشغل مساحة شقة واسعة من عدة غرف بالشارقة مشحونة في صناديق ومبعثرة على الطاولات، والسرير والتي ضاق بها المكان حتى أنه وزعها في المطبخ واستقر بعضها فوق الثلاجة! كذلك «مسلم الصايغ»، وهو اسم قد لا يعرفه معظمنا، لكن الذين يهتمون بتاريخ الصحافة وعالم التوثيق يعرفونه أو سمعوا به، فهو شخصية عاشت في الإمارات ويمتلك ثروة من الصحف والمجلات التاريخية. لكن مشكلته هي كالآخرين في هذا الحقل، كان ضنيناً بهذه الثروة يخاف عليها، لهذا عاش مثل أترابه فقيراً معوزاً حتى لثمن العلاج في حالات، رغم أنه عرض عليه مبلغ المليون درهم في نهاية فترة الثمانينيات لشراء هذه الثروة، فإنه رفض أن يتخلى عنها. كان يكدّسها في بيته وعندما ضاق بها المكان، استأجر لها مستودعاً في أم القيوين يحفظها، ولماذا في تلك الإمارة البعيدة؟ لأن الإيجار كان رخيصاً هناك، وهو لا يملك غير ذلك الخيار، يذهب لها في حالات يطمئن عليها كلما وجد من يأخذه إليها. ومرة عرضت عليه مؤسسة أن تقيم معرضاً لمقتنياته، وافق في البداية لكنه اعتذر بعدها بسرعة! سألته لماذا حرمت الجمهور من تلك الفائدة؟ فأجاب: أخاف أن أفقد شيئاً منها، أو يتم العبث بها خلال عمليات العرض أو بعد انتهاء المعرض. وقالوا إن مسلم مات، وانسل من ذاكرتنا جميعاً. ذكّرني زميل بمقال كنت قد كتبته عنه منذ سنوات بعيدة، احتاج هو أن يتذكر ويذكرني لأن عمله البحثي يتطلب وجود وثائق قديمة كأرشيف مسلم، وأن مؤسسته اليوم مستعدة أن تشتري مقتنياته، لكن أين هو؟ وأين هي؟ لا أحد ممن أعرفهم يملك الإجابة، الصدفة وحدها دلتنا أن تلك الثروة سكنت في «مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث»، لقد أهداها لهم. أخيراً استقرت هنا في هذا الوطن الذي عاش على ترابه وأحبه وهو العراقي الغريب الذي عذبه الزمن وعذبته بلاده بحالها وأحوالها المتقلبة والمتدهورة في كل أزمنتها الحديثة. تصفح الجزء الذي تم الانتهاء من فهرسته يخبرك أنه يقتني مجموعة نادرة بعضها يعود تاريخه إلى عام 1898! وأن هذا الهوس جعله لا يترك مطبوعة تصدر في مكان ما من العالم إلا وحاول الحصول عليها. في ركن المكتبات المهداة للمركز، هناك ما يقارب من 100 مكتبة شخصية يضمها المكان لأعلام إماراتية بارزة مثل الشيخ عبد الرحمن بن حافظ، والشيخ أحمد بن ظبوي وحمد خليفة بوشهاب وإبراهيم عبيد الله وشخصيات أخرى عديدة، بل إن هناك مكتبة أهديت للمركز من جامعة هارفارد تضم ألف كتاب، ومكتبة تحمل اسم نزار قباني، وسألت عنها كيف وصلت إلى هنا؟ فأخبرني المرشد: أن نزار زار مرة المركز وأبدى إعجابه بالمجموعات والجهود التي تبذل في هذا المشروع الثقافي الإنساني الخالد، وقال لهم إن كتبي ممنوعة بمعظم البلدان العربية، وبالتأكيد أنها غير موجودة عندكم، لكنه فوجئ بها حاضرة في المكتبة، فقال سأهديكم أكثر من ذلك، بعض مكتبتي الخاصة وقد فعل. هناك في هذا الركن كتب بستة وخمسين لغة، والمكتبة الفارسية وحدها تضم أكثر من 12 ألف عنوان، وقسم يضم الكتابة الحجرية، والتي بدأت معها لغة الكتابة، وعاشت في أحقاب بدايات الإنسان، وفيه ما يزيد على 600 كتاب. سيرة جمعة الماجد الذي أسس هذا المعلم الثقافي التاريخي، وبذل الكثير من أجل تطويره واستمراريته، هي قصة طويلة لهذه الشخصية الغنية بالمبادرات في أعمال البر والخير وخدمة الثقافة والعلماء، لقد سخره الله ليخدم أمته ووطنه، إنها أعمال خالدة مما ينتفع به الناس ولا ينقطع فضلها، لأنها باقية تتوارث. المركز يملك ثروات أخرى ويقدم خدمات عديدة للباحثين وطلاب العلم، ويكفي أنه وثق كل ما كتب عن الإمارات ليس كعناوين فقط، ولكن أينما ورد في المتن كذلك، وهي من أصعب عمليات البحث والفهرسة. شهرة هذا المركز وصلت إلى بلدان مختلفة، ويعرف عنه العالم الخارجي وبعض الناس هنا لكن الكثير منا لا يعرف ماذا يقدم؟ وماذا يحوي من مخطوطات ووثائق وكتب ودراسات. لقد قصّر إعلامنا في أن يعلمنا جميعاً عن هذا المعلم الذي وجد من أجل هذا الوطن أولًا ويضم كنوزاً وتاريخاً وتفاصيل وذاكرة مهمة للإمارات لا توجد إلا في جنباته؟ لماذا يا إعلام لم تقترب من هذا المكان، وتستثمر هذه الثروة؟! قال المرشد: تعبنا من محاولة التواصل مع قنواتنا الفضائية، عرضنا عليهم مرات هذه الصور والمواد التي تتحدث عن تاريخ الدولة في مراحل مختلفة لتقديم برامج وطنية تخدم المجتمع، وكل مرة يعدوننا، ومرات طلبوا منا أن نحضر راعياً إعلانياً لهم. نقلا عن صحيفة الاتحاد