حتما سوف يعود الجيش المصري إلي ثكناته، ويرجع المجلس العسكري إلي مهمته الوحيدة وهي إدارة شئون القوات المسلحة، في موعد أقصاه الثلاثون من شهر يونيو المقبل. وقد تجري أمور تختصر زمن العودة ومدة الرجوع إلي أمد أقرب مما يظن الكثيرون! نزل الجيش إلي الشارع في بواكير أيام ثورة 25 يناير، وسط هتاف الجماهير التي اعتلت مركباته ودباباته وطوقت أعناق رجاله بالورود، وصعد المجلس العسكري إلي قمة السلطة محاطا بتأييد الملايين التي بايعته دون تصويت علي إدارة شئون البلاد، وفوضته في قيادة الوطن عبر مرحلة انتقالية إلي بر الديمقراطية وبناء مؤسسات حكم تتولي السلطة عبر صناديق الانتخاب. ودوي في ميدان التحرير وغيره من ميادين الجمهورية هتاف واحد انطلق عفويا من القلوب دون اتفاق يقول: »الجيش والشعب إيد واحدة«. لكن مياها كثيرة جرت وكذلك دماء تحت جسور النيل خلال أحد عشر شهرا من عمر ثورة 25 يناير. تبدلت أحوال.. وتغيرت فصول، عشنا ربيعا رائعا تفتحت فيه زهور ثورة صنعها الشعب وحماها الجيش، أطاحت برأس النظام وأعوانه وأزلامه، وأودعتهم قفص الاتهام في محاكمة غير مسبوقة في تاريخ الأمم، ثم حل علينا خريف غاضب، تساقطت فيه أوراق، وتآكلت أغصان، وهبت رياح، زعزعت ما كنا نظنه أنه غير قابل للاهتزاز! حدث ما كنا نخشاه. وتكاد محاولات الوقيعة تنجح في شق الصف بين جماهير فجرت الثورة وجيش شريك أصيل فيها. وقامت جدران عازلة تفصل بين الثوار والجنود لعلها أقل سمكا وارتفاعا من جدران عدم ثقة قامت في النفوس، ومن المفارقات أن من بين الجنود شبابا ثائرا وقف في ميدان التحرير في الأيام الثمانية عشرة للثورة يهتفون من اجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم لبوا نداء الوطن وانخرطوا في صفوف المجندين مؤخراً ، وشاء القدر ان يقف هؤلاء في الجانب الآخر من الجدار! حدث ما حذرنا منه. وتكاد محاولات الوقيعة تفلح وتضع المجلس العسكري - الذي غامر اعضاؤه برقابه عندما انحازوا للشعب الثائر المطالب بإسقاط النظام - في موضع خصم الثورة الذي يلتف علي مطالبها ويتآمر علي أهدافها بل ويسعي - كما قال أحد النشطاء - إلي إلغاء الخلع عن المخلوع! هذه الوقيعة سمحنا بها أحيانا وصنعناها بأيدينا أحيانا أخري. سمحنا بها عندما استهان المجلس العسكري بصلابة شوكة القوي المضادة للثورة فلم يلحظ وجود »حبل سٌري« يربط رؤوس النظام في طرة، بأتباعهم وأزلامهم الذين ينفذون بالمال والسلاح والبلطجة مؤامرات ضد الثورة وجماهيرها والجيش الذي حماها. وسمحنا بها عندما تركت القوي الثورية، جماعات الفوضويين تتصدر المشهد وتدعو باسم الثورة إلي تفكيك القضاء والجيش والشرطة، بينما هي في الحقيقة تدعو إلي إسقاط وطن ووأد ثورة وتطالب دون ان تدري بما عجز عن الجهر به أعداء البلاد. صنعنا الوقيعة.. عندما تردد المجلس العسكري في اصدار قرارات، تباطأ في اتخاذ مواقف، فجاءت القرارات منتهية الصلاحية والمواقف فاقدة التأثير. ولم ينجح في إرضاء أحد، حين أراد أن ينال رضا الجميع. وصنعنا الوقيعة.. عندما انكفأت القوي السياسية علي نفسها تكايد بعضها بعضا، وتزايد علي مواقف بعضها بعضا وتقحم المجلس العسكري في معارك طواحين الهواء الحزبية وصراعات الاستئثار بمقاعد البرلمان وفرض الإرادة في تشكيل الجمعية التأسيسية وصياغة الدستور، ومن ثم بدا المجلس العسكري طرفا في مناورات، بدل أن يكون حكما بين أطراف، وزجت القوي السياسية بالمجلس العسكري في استعراضات القوة التي نظمتها ضد خصومها في أيام الجمع بالميادين. أخطأ المجلس العسكري حين خلط بين السرية الواجبة في إدارته لشئون القوات المسلحة، والعلانية الضرورية في إدارته لشئون البلاد. لم يعلن عن وجود عسكريين ضمن المتهمين الذين يحاكمون في احداث ماسبيرو إلا متأخرا جدا، بعد ان ظن المواطنون لاسيما المسيحيون ان المخطيء لن ينال عقابه لو كان عسكريا. لم يعلن عن أسماء المتورطين في تمويل أعمال البلطجة في شارع محمد محمود وتمويل جرائم تخريب وإحراق المنشآت العامة، ولم يكشف عن الجهات الخارجية التي تخطط لمؤامرة إسقاط الدولة التي تحدث عنها في رسالته الاسبوع الماضي ولا عن الشخصيات التي علي اتصال بهذه الجهات لتنفيذ المؤامرة، وترك الناس تضرب أخماسا في أسداس وسط أجواء ضبابية، وتحول الحديث عن وجود طرف ثالث غير معروف يقف وراء كل هذه الأحداث والحوادث إلي ما يشبه المزاح الاسود في الفضاء الاليكتروني. ثم كانت الضربة في الصميم لشعار »الجيش والشعب ايد واحدة«، عندما أستجيب لطلب وزارة الداخلية علي حساب الجيش المصري، فتوارت قوات الأمن المركزي عن الانظار بعيدا عن شارع مجلس الوزراء ووضعت مكانها في المواجهة عناصر من القوات المسلحة غير مدربة علي أعمال مكافحة الشغب أو فض الاعتصامات، وغير مهيأة للتجاوز عن الاستفزازات وبالتالي تتالت المشاهد المؤسفة والمخزية بدءا من التراشق بالحجارة، ثم اقتحام المنطقة وسقوط مئات المصابين، وكانت ذروة المشاهد هي استشهاد نحو ستة عشر من زهرة شباب مصر ورجالها وفضيحة الاعتداء علي المتظاهرات وسحلهن بوحشية يندي لها جبين اي حر. انا اصدق ما اكده لي قادة كبار أثق في نزاهتهم ووطنيتهم من ان قوات الجيش لم تطلق رصاصة واحدة علي المعتصمين، لاسيما ان تقرير الطب الشرعي عن تشريح جثث الشهداء ذكر انهم توفوا برصاصات اطلقت من مسافات شديدة القرب أحدثت فتحات دخول وخروج وان الشهيد الوحيد الذي استقرت بجسده رصاصة، ثبت ان الطلقة التي اصابته لم تطلق من سلاح يستخدمه الجيش المصري. غير ان شكوك الناس لن تتبدد ما لم يتم القبض علي الجناة ومن هم وراءهم الذين قتلوا الشباب المصري غدرا وغيلة. وانا اصدق بيان الاعتذار لنساء مصر الذي صدر عن المجلس العسكري فيما تضمنه عن محاسبة كل الذين تجاوزوا في حق الفتيات المتظاهرات، واهدروا كرامتهن وكرامة كل مصري ذي نخوة بل واهانوا العسكرية المصرية العريقة. غير ان قبول الاعتذار يظل رهنا، بالكشف عن المتهمين ووضعهم في قفص الاتهام ومحاكمتهم علنا. أمامنا شهر علي الاحتفال بمرور عام علي قيام ثورة 25 يناير. البعض يتحينها فرصة لاشتباكات تنشر الفوضي. والبعض يريدها مناسبة لإعلان النصر علي المجلس العسكري وكأنه المندوب السامي وعلي القوات المسلحة وكأنها جيش احتلال. والملايين تتطلع إليها كذكري واحد من أعظم ايام مصر، انطلقت فيه ثورة سلمية استهلت ايامها الأولي بالإطاحة بنظام الاستبداد، وتكلل عامها الأول بانتخاب أول مجلس شعب يأتي بإرادة الجماهير منذ 60 عام مضت، ومازالت مستمرة حتي تتحقق اهدافها وينتقل الحكم إلي أول رئيس مدني منتخب. - وأزعم أنه يشاركني في رأيي قطاع غالب من المصريين -ان تحين تلك الذكري العطرة، وقد جري توافق عام علي اختصار الفترة الانتقالية، كأن تُرجأ انتخابات مجلس الشوري، لحين يقرر الدستور الجديد الإبقاء علي المجلس أو إلغاءه، ويعدل الاعلان الدستوري ليسمح لمجلس الشعب وحده باختيار اعضاء الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع الدستور، علي ان تتم بالتوازي اجراءات فتح باب الترشيح لرئاسة الجمهورية، لتبدأ مثلا يوم 11 فبراير المقبل في ذكري الاطاحة بمبارك، وتتم الانتخابات في الاسبوع الثاني من ابريل، وتنتهي الفترة الانتقالية في منتصف ابريل بعد نقل السلطة إلي الرئيس المنتخب. إلي هذا الاقتراح هو أن اختصار الفترة الانتقالية يحقق مصالح الجميع، وأولهم الجيش المصري وقادته العظام ليتفرغ الجيش لمجابهة مخاطر تحيق بالوطن ويتفرغ القادة لوأد مؤامرات تستهدف استباحة البلاد وتقويض دعائمها. ودافعي ايضا ان استمرار مرحلة الانتقال إلي نهاية يونيو، قد يقتادنا إلي صدام -نحن في غني عنه- بين مجلس شعب منتخب وسلطة حكم انتقالية لا نريد لها ان توغل أكثر مما أوغلت في مستنقع السياسة الآسن، فضلا عن ان التبكير بانتخابات الرئاسة، يغنينا عن نزق بعض المحسوبين علي التيار الليبرالي، ممن يطالبون بتسليم سلطة رئاسة الجمهورية إلي رئيس مجلس الشعب القادم، وهم دون ان يدركوا يضعون البرلمان والحكومة والدستور وسلطة الرئاسة في قبضة تيار واحد قد تقوده السلطة المطلقة إلي مفسدة مطلقة. علي المجلس العسكري ان يضع برنامجا للاحتفال بذكري الثورة يليق بعظمة العسكرية المصرية وبعراقة هذا الشعب العظيم، يعيد بناء ثقة تآكلت في النفوس ويضمد جراحا تنزف في الصدور. علي انه من الضروري ان تسبق الاحتفال محاكمة رادعة للذين قمعوا المتظاهرين وسحلوا المتظاهرات مع سرعة القبض علي الجناة الحقيقيين قتلة الشهداء، والاعلان عن العقوبات ضد المتهمين العسكريين والمدنيين في احداث ماسبيرو، والكشف عن اسماء مدبري احداث التخريب وممولي مخططات الفوضي. وأسمح لنفسي ان اضع بعض مقترحات اتمني لو وجدت مكانها في جدول اعمال احتفالنا بذكري ثورة 25 يناير: منح نوط أو وسام باسم »نوط الفداء« أو »وسام البطولة« لاسماء شهداء الثورة الذين سقطوا في عامها الأول، وهذه اللفتة »في ظني« هي اغلي عند اسرة كل شهيد من اي تكريم مادي. منح نوط باسم »ثورة 25 يناير« لأفراد القوات المسلحة التي انحازت للشعب وحمت الثورة. صرف معاش باسم »معاش الثورة« لربات الاسر المعدمات غير القادرات علي الكسب لمعاونتهن في مواجهة تصاريف الحياة. إنشاء »بنك الشباب« لتقديم قروض حسنة متناهية الصغر في حدود 5 آلاف جنيه يحصل عليها الشاب المعدم العاطل في صورة كشك أو بضاعة أو آلة صغيرة تعينه علي الكسب الحلال.. علي ان تعطي الاولوية لسكان العشوائيات والقري الاكثر فقرا. ويمكن ان يخصص لرأسمال هذا البنك مليار جنيه وهو المبلغ الذي كان سيخصص لاجراء انتخابات مجلس الشوري.. اي ان البنك سيقدم قروضا حسنة فورية لنحو 200 ألف شاب يوفر لهم مصادر رزق شريفة في الحال، ولو كان القرض سيسدد علي 50 شهرا بواقع 100 جنيه شهريا، فيمكن ان يستفيد من هذا القرض الدوار اعداد اضافية تقدر بنحو 4 آلاف شاب كل شهر. تدشين مشروع تطوير العشوائيات الذي اعتمدت له القوات المسلحة ملياري جنيه من عائدات مشروعاتها الاقتصادية وخصصت له اراضي تابعة لها دون مقابل. انشاء النصب التذكاري لشهداء ثورة يناير وبانوراما الثورة، في الموقع الذي تشغله الآن بقايا مبني الحزب الوطني المنحل علي كورنيش النيل في مواجهة ميدان التحرير. تراودني امنيات بأن يعود هتاف »الجيش والشعب إيد واحدة« ليدوي في سماء ميدان التحرير يوم 25 يناير المقبل، وان نشاهد قرب حلول هذه الذكري رأس النظام السابق واعوانه وهم يرتدون البدل الزرقاء والحمراء جزاء لهم عن اهانة البلاد وسفك دماء الشعب، وان يرجع جيشنا العظيم معززا إلي ثكناته ويعود مجلسه الاعلي مكرما إلي مهامه الأصلية، في نهاية الفترة الانتقالية بعد تكثيفها ليباشر الجيش وقادته أقدس مهمة وهي الدفاع عن حدود وسواحل وأجواء الوطن. نقلا عن صحيفة الاخبار