مرّ " قطوع"- أي حل أزمة- تمويل المحكمة الخاصة بلبنان من خلال الإجراء الذي اتخذه رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي. وهو إجراء جاء ثمرة اتصالات مكثفة عشية الجلسة التي كان مقرراً فيها مناقشة الأمر بالتلازم مع تأكيد "ميقاتي" أنه إذا لم يكن تمويل فسيستقيل. انتهت الأزمة على الطريقة اللبنانية: موافقة الجميع على التمويل وعلى بقاء الحكومة فلا يستقيل رئيسها. لقد تمّ تمويل المحكمة " وتموين " الحكومة (أي مدّها بالمونة المغذية اللازمة). وبغض النظر عن حسابات الربح والخسارة في البازار السياسي الداخلي اللبناني. مَن سجّل نقطة على مَن؟ من رفض التمويل ثم قبله؟ من اشترط التمويل وحصل عليه؟ من راهن على الاستقالة وخاب أمله بالنتيجة؟ مَن أخطأ في حساباته الأساسية ثم اضطر إلى مراجعتها؟ مَن ومَن ومَن...؟ بغض النظر عن كل ذلك، وعلى أهميته، فإن ثمة مسألة أجمع عليها الناس بطريقة أو بأخرى: التمويل. تمويل الضرورة لإنقاذ لبنان. لإنقاذ استقراره. لتجنب الفتنة. لتعزيز الوحدة الوطنية. وهذه مسألة غاية في الأهمية. أن يقّدر اللبنانيون المخاطر المحدقة بهم كل من موقعه، وأن يتلاقوا بالإجماع حول ضرورة تداركها وإنقاذ بلدهم، هذا أساس يجب البناء عليه. وأمام هذه الأهداف وفي مثل هذه الظروف يمكن لأي سياسي، بل من الواجب عليه أن يتجاوز اعتبارات وحسابات كثيرة وكبيرة. لقد ثبت أن اللبنانيين يتوقون إلى الاستقرار. كان القلق يحيط بهم. وانعكس ذلك على الحركة الانتاجية في البلاد وشعر كثيرون أننا ذاهبون إلى حال من الفوضى. فالانقسام قائم حول كل شيء في الداخل، وكذلك حول ما يحيط بنا من تحديات وتطورات وأحداث في الخارج. فكيف يمكن لبلد مثل لبنان أن يواجه هذه الحالة؟ الواقعية السياسية التي أدت إلى مخرج تمويل المحكمة وتغطية قرار رئيس الحكومة من قبل القوى السياسية المختلفة، هي التي انتصرت، وهي التي يجب أن تبقى سائدة. لا العناد ولا المكابرة ولا التحدي ولا الغرور ولا التهور والإندفاع في الحسابات الضيقة الصغيرة. هي العوامل التي يمكن أن تؤثر إيجاباً في صناعة القرار السياسي في لبنان. اعتقد أن اللبنانيين عاشوا ما يكفي من التجارب السياسية الصعبة المكلفة، ومن الامتحانات القاسية ودفعوا أثماناً غالية، ليدركوا أنهم محكومون بالتسوية. نعم التسوية هي الثابت. كنا في مراحل معينة نعبّر عن عدم ارتياح للتسويات، ونحن في قمة اندفاعنا نحو أهداف نبيلة. وكنا نعتبر أن التسويات ليست حلاً ولا بدّ من تغيير جذري في لبنان. ولامسنا أحياناً حدود هذا التغيير في حركة ديموقراطية إنسانية حضارية أخلاقية وطنية عابرة للمناطق والطوائف والمذاهب قادها كمال جنبلاط الذي تميّز بالشعور الوطني الصافي وحب الناس والفقراء. ومع ذلك كان واقعياً. وكان عندما يرى أن الأمور قد تفلت من أيدي اللبنانيين كان يذهب إلى التسوية، بل كان يتحدث عن جمال التسوية لأنه أدرك جيداً حقيقة لبنان، وعرف كيف يتعامل معه ومع وقائعه. بعده، دخلنا في الحروب والطائفيات والمذهبيات وتراجعنا كثيراً في الممارسة السياسية اللبنانية، لكن الشعب اللبناني بمكوناته بقي هو هو. وبالتالي بقيت الوقائع والحقائق هي هي لكن الرجال تغيّروا مع تغيّر الظروف. أصبحنا في حياة سياسية أكثر تعقيداً وصعوبة وأمام متعاطي سياسة أكثر عقداً وابتعاداً عن الواقعية في ظل أخطار أكبر... ومع ذلك أثبتت التجارب أن التسوية هي العقد الدائم بين اللبنانيين. وتراكم التسويات بالمعنى الإيجابي للكلمة أي بمعنى أن نثبت الإيجابي فيها ونذهب إلى معالجة ما بقي من مشاكل بروح الحوار بيننا ونزيل السلبي من طريقنا، هذا التراكم قد يؤدي إلى الحلول، القابلة أيضاً للتطوير مع تطور الأحوال في الأزمنة المختلفة. آن لنا أن نتعلم من تجاربنا. وأن نغلّب منطق الحوار والتسوية على منطق القطيعة والتحدي والإنغلاق. نحن اليوم أمام فرصة. أخذ قرار تمويل المحكمة لإنقاذ لبنان كما قال الجميع، ولتنفيس الاحتقان المذهبي في الداخل، فما هي الخطوة التالية ومشاكلنا كثيرة؟ هل نذهب إلى البناء على هذا القرار لنعزز القناعة بالإقدام على أي خطوة تساهم في حماية الأمن والاستقرار وسلامة الاقتصاد في لبنان، أم نذهب إلى مشكلة جديدة؟ أعتقد أن الحكمة والمنطق والعقل تدفعنا إلى تثبيت إجماعنا. إلى الذهاب إلى البحث عن تسوية جديدة حول كل عناوين الخلاف بيننا. لابدّ من مصالحة حقيقية بين اللبنانيين. لا بدّ من تفاهم لبناني - لبناني نؤسس له ونتفق عليه نحن قبل أن يتفاقم الخلاف ونستخدم مجدداً أرضاً وشعباً في لعبة أكبر منا بكثير ثم يأتي مستخدمونا إلينا وعندما يتفقون على مصالحهم فيدعوننا إلى طاولة هنا وهناك، نذهب إليها بعد ثمن كبير، ونهلّل لها ونشيد بها كالعادة، ثم نعود إلى عاداتنا القديمة ونؤسس لخلافات جديدة وهكذا دواليك. لا أعتقد أن البلد يحتمل مثل هذه التجربة اليوم. ولا أعتقد أيضاً أن هذا هو الطريق الذي يخرجنا من أزماتنا. هذا الطريق يدخلنا إلى أزمات جديدة إلى هجرة المزيد من اللبنانيين في الداخل. أي إلى غربتهم وابتعادهم عن بعضهم البعض وعن دولتهم ومؤسساتها لأنها هجّرتهم، تركتهم، أفقدتهم آمالهم. وإلى هجرة نحو الخارج بحثاً عن علم أو عمل ولخدمة مجتمعات أخرى في مجالات عديدة. ليس هذا هو لبنان الذي نريد. والذي قدمّنا أغلى ما عندنا من أجله وتحت رايته كل منا من موقعه ووفق قناعاته. اليوم بعد قرار تمويل المحكمة، لا بد من نقاش سياسي واسع حول كل ما جرى. لكن يجب أن يبقى النقاش تحت سقف الإجماع على إنقاذ لبنان وتجنيبه الفتنة. أي خطاب سياسي أو مقاربة للأوضاع تحمل طابع الحدة المذهبية أو التحدي ستحدث المزيد من الإنقسام وستعيد إنتاج الأزمات. وأي تحرك تحت عنوان تصفية الحسابات والكيدية بين اللبنانيين في الإدارات والمؤسسات والحياة العامة سيؤدي إلى مزيد من الحقد وردود الأفعال السلبية التي سندفع ثمنها جميعاً. إن دولاً أكبر وأهم وأغنى وأقدر من لبنان في المنطقة تتحسب لما يجري حولها، ولما هو آتٍ على المنطقة، فكيف بنا نحن هنا؟ دولة صغيرة فقيرة منقسمة على ذاتها؟ بالكاد إذا تفاهمنا نستطيع درء الأخطار عنا، فماذا نفعل أمام هذا المشهد الداخلي؟ في لبنان لا يستطيع أي فريق أن يتفرّد بالقرار. وأن يحكم وحده. ولا يستطيع أي فريق أن يكسر فريقاً آخر ويخرجه من الحياة العامة. قد تتأثر المعادلات الداخلية بما يجري على الساحات الخارجية. قد تتأثر موازين قوى في الداخل. قد يخسر هذا الفريق أو ذاك نقطة أو ورقة. لكن هؤلاء جميعاً لبنانيون. مقيمون هنا. أبناء البلد لا يستطيع أحد التنكر لهم وإقصاءهم أو إلغاءهم أو تجاهلهم أو الكيد منهم. انطلاقاً من هذه الحقيقة يجب أن تقام الحسابات والرهانات والسياسات ونتخذ القرارات. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية