كيف ومتى تنتقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى حكم مدني؟ هذا هو السؤال الذي يشغل المصريين الآن وخصوصاً حركات وائتلافات الشباب ثم الأحزاب والقوى السياسية. فقد خلقت مشاكل المرحلة الانتقالية والإخفاق في معالجتها تراكمات أدت إلى انعدام الثقة بين مختلف الأطراف، وخصوصاً بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكثير من حركات الشباب والأحزاب. لذلك لم يكتف بعضها بإعلان 30 يونيو موعداً نهائياً للانتخابات الرئاسية، وبالتالي نقل السلطة إلى رئيس منتخب. فبعد أن كان تحديد هذا الموعد هو المطلب الأساسي، صار نقل السلطة بشكل فوري إلى مجلس رئاسي أو حكومة إنقاذ كاملة الصلاحيات وحصر دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة في شؤون الدفاع والأمن القومي هو ما يصر عليه كثير من الحركات الشبابية التي دعت إلى تصعيد الاحتجاجات سعياً إلى تحقيقه. وعندما يحتدم الخلاف على مدى زمني لا يتجاوز سبعة أشهر، فهذا يعني أن الصراع ليس على نقل السلطة في حد ذاته، بل على القوة والنفوذ وأدوار الأطراف المختلفة في المرحلة القادمة وموقع الشباب الذي قام بالدور الأكبر في التمهيد لثورة 25 يناير في النظام السياسي الجديد. إنه، بهذا المعني، صراع على صورة مصر في قادم الأيام، ومن يرسمها وكيفية تحقيق ذلك. ورغم الطابع الشبابي الغالب في الاحتجاجات المطالبة بنقل السلطة "الآن وفوراً"، فالصراع ليس جيلياً في المقام الأول. فهو صراع سياسي تبحث مصر في ثناياه عن نفسها وتحدد نتائجه صورتها لعقود قادمة. ومع ذلك، تظل أزمة عدم الثقة هي المحرك الأساسي لهذا الصراع لأن الأجيال الجديدة هي الأكثر قلقاً والأشد ميلاً إلى الشك في أي ترتيب للأوضاع يحدث بعيداً عنها وبدون مشاركتها. وهذا ما يفسر عدم اقتناعها بالجدول الزمني الذي تم إعلانه لنقل السلطة في موعد لا يتجاوز 30 يونيو القادم، وعدم ثقتها في إمكان الالتزام به في ظل استمرار خريطة الطريق التي أرساها الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس الماضي. فوفقاً لهذه الخريطة تجرى الانتخابات البرلمانية أولاً في الفترة من 28 نوفمبر إلى منتصف مارس 2012، ثم يجتمع البرلمان لانتخاب جمعية تأسيسية تضع مشروع الدستور لطرحه في استفتاء عام، على أن يعقب ذلك تحديد موعد الانتخابات الرئاسية. وقد تم إقرار تلك الخريطة في حينها، رغم حدوث خلاف عليها ومطالبة بعض القوى السياسية بأن يبدأ المسار الانتقالي بإصدار الدستور الجديد أولاً، ثم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. غير أن خريطة الطريق هذه فقدت ميزتها الأساسية حتى بالنسبة لمن طالبوا بإجراء الانتخابات أولاً عندما تبين أنها ستؤخر نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى حكم مدني منتخب، وليس العكس. ففي ظل هذه الخريطة، لن تبدأ عملية إصدار الدستور الجديد قبل آخر مارس أو أول أبريل 2012، ولن تنتهي بالتالي قبل سبتمبر أو أكتوبر من العام نفسه في أفضل الأحوال بافتراض أنه لن يحدث خلاف على معايير أعضاء الجمعية التأسيسية الذين سينتخبهم البرلمان، وأن عمل هذه الجمعية سيمضي بشكل سلس دون خلافات جوهرية. وهذا افتراض يصعب ترجيحه بسبب الانقسام الذي يسود الساحة السياسية، وضعف الثقة المتبادلة بين أطرافها. كما لم يحدث توافق نهائي حتى الآن على معايير انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية. فقد حدث خلاف حاد بين بعض الأحزاب والقوى السياسية على المبادرة التي أخذتها الحكومة لوضع وثيقة تحدد المبادئ الأساسية للدستور الجديد ومعايير انتخاب الجمعية التأسيسية التي ستضع مشروعه. ولم يتم التوصل إلى حل نهائي لهذا الخلاف. لذلك ربما يتعذر التوافق السريع على كيفية انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، وهل يكونون من أعضاء البرلمان أم من غيرهم، أم خليط من هؤلاء وأولئك، وآلية الاختيار من خارج البرلمان. وإذا حدث مثل هذا الخلاف، لابد أن يعطل عملية إصدار الدستور الجديد، ويؤخر بالتالي إجراء الانتخابات الرئاسية التي أُعلن أخيراً أنها ستجري في موعد لايتجاوز 30 أبريل القادم، وبالتالي إطالة أمد المرحلة الانتقالية إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية. وحتى في حالة عدم حدوث خلاف على الجمعية التأسيسية، وأمكن التوافق على معاييرها في وقت قصير، ليس هناك ما يضمن توافق أعضائها على مشروع دستور جديد في وقت معقول بحيث يمكن طرحه للاستفتاء العام وإصداره وإجراء الانتخابات الرئاسية قبل منتصف عام 2012. ولهذا كله، لا يثق البعض في جدوى تحديد موعد نهائي للانتخابات الرئاسية في ظل عدم وجود رؤية واضحة لكيفية تقصير أمد المرحلة الانتقالية بما يضمن الالتزام بالجدول الزمني الذي يستهدف إنهاء هذه المرحلة في 30 يونيو القادم. فهناك اتجاهان مختلفان في تصورهما لكيفية تحقيق هذا الهدف؛ يرى أحدهما ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية فور انتهاء الانتخابات البرلمانية وقبل إصدار الدستور الجديد، حتى يمكن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يسلم السلطة التنفيذية إلى الرئيس المنتخب في الوقت الذي يستعيد فيه البرلمان السلطة التشريعية ويعود الجيش إلى ثكناته. أما الاتجاه الآخر فيفضل تقصير فترة الانتخابات البرلمانية، حيث يمكن إجراؤها في شهرين وربما أقل بدلاً من أربعة أشهر تقريباً، وإعادة النظر في فكرة إصدار دستور جديد والبحث في إمكان التوافق على تعديل الدستور المعطل (دستور 1971) على أساس أن نصفه الأول الذي يتعلق بمقومات الدولة والمجتمع والحقوق والحريات العامة لا غبار عليه، وأن أسوأ ما في هذا الدستور هو الباب المتعلق بنظام الحكم، حيث أقام نظاماً فردياً طاغياً بلا مساءلة أو محاسبة. لذلك لم يستطع مؤيدو هذا الجدول الزمني إقناع غيرهم به لأنهم مختلفون فيما بينهم على كيفية تقصير المرحلة الانتقالية، ولأن هذا الخلاف يعيد في أحد جوانبه إنتاج المعركة السياسية الكبيرة التي حدثت في مطلع الربيع الماضي حول "الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً". وهكذا يظل المسار الانتقالي في مصر مضطرباً بخلاف الحال في تونس التي حدث فيها توافق على انتهاء المرحلة الانتقالية عبر انتخاب المجلس التأسيسي الذي بدأ عمله فعلاً باختيار رؤساء له وللدولة والحكومة، وشرع في إدارة مهمته الأساسية وهي إعداد مشروع الدستور الجديد خلال فترة لا تزيد على عام يقوم خلالها بدور البرلمان، على أن تجرى انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة عقب إصدار الدستور. لذلك تبدو تونس في وضع أفضل بكثير وهي تستعد للانتقال إلى وضع طبيعي في الوقت الذي لا تزال مصر تبحث عن مخرج من مسار انتقالي مضطرب، بل ربما يجوز القول إنها تبحث عن نفسها وسط هذا المسار الذي يخيم عليه ضباب كثيف. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية