اتسمت الحضارة الإسلامية بخصائص عدة تفردت بها عن باقي الحضارات الإنسانية، ورسم الطابع الخيري ركنا أساسيا لها، فقد حث الإسلام على التعاون على فعل الخيرات، وفتح قنوات عدة لإنفاق المال في صلاح المجتمع وإعمار نفوس الخلائق، فحين يقدم المسلم جزءا من ماله على سبيل التطوع فهو يتحرر بذلك من سلطان شهوة المال، وينفك اسره من قيود الفردية والأنانية، ليجسد التفاعل بين أبناء الأمة الإسلامية الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى (البخاري 5/2238). والوقف من هذه القنوات التي شرعها الإسلام لإنفاق المال في صالح الأعمال، وهو من الخصائص التي انفرد بها الإسلام في مجال العمل الخيري، ودعا المسلمين الى تطبيقها حرصا منه على ديمومة اعمال البر والإحسان بهدف التقرب الى الله سبحانه وتعالى وتوثيقا للعلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، ولذلك أجاز الشارع الحكيم الوقف على الفقراء والأغنياء، والأقرباء والغرباء، والمسلمين وغير المسلمين، الذين يعيشون في بلاد الإسلام. ويعد الوقف اصدق تعبير وأوضح صورة للصدقة الجارية التي لاتنقطع بعد موت الإنسان، والتي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله الا من ثلاثة الا من صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له. (مسلم 3/1255). وقد لعب الوقف الإسلامي دورا تاريخيا في دفع عجلة التنمية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والرعاية الصحية، فقد انتشرت الاوقاف على نطاق واسع في محيط العالم الإسلامي شرقا وغربا، حيث تبارى المسلمون في إنشاء الأسبلة باعتبارها نوعا من الصدقة الجارية. ولم يتوقف المسلمون عند ذلك بل امتد الوقف الخيري الى عمارة الارض فأوقفوا على المساجد والمدارس والمستشفيات، ثم تجاوز الوقف الإسلامي حاجات الناس الى حاجات الدواب والحيوان، فوقفوا اوقافا لها. والناظر في تاريخ الحياة العلمية للمسلمين يعرف ان دعم النشاط العلمي قد قام على نظام الوقف على مدى قرون عدة في التاريخ الإسلامي، فإن المصادر التاريخية تؤكد العلاقة الوثيقة بينه وبين المساجد والمدارس التي قامت عليها النهضة العلمية، فلقد كان للأوقاف الفضل الأول خلال هذه الفترات في ازدهار الحركة العلمية في المساجد والمدارس الكبرى وأدائها لوظيفتها في تخريج اجيال العلماء النابغين وتطوير التفكير العلمي في المجتمع المسلم، هذا النشاط والتفكير الذي ظل بقية باقية دفعت بالحركة العلمية واخرجت العلماء المعاصرين في المجالات المختلفة. وكان اكبر مثال لذلك الجامع الأزهر، فقد كان له نصيب مقدر من أوقاف مصر ينفق منها على أبنيته وفقهائه وطلابه والفقراء الواردين إليه، فأوقفت الكثير من اراضي مصر لخدمته وها هو ذا شامخ باق يؤدي وظيفة بإخلاص وصدق ونفع للعالم الإسلامي حتى يومنا هذا. وعلى الدرب نفسه كانت الأوقاف هي الشريان الرئيسي لكل النشاطات العلمية في مصر، فقد اوقف المسلمون على المدارس والموسسات التعليمية، وكفل الوقف بناء هذه المؤسسات وصيانتها وكفل كل من درس فيها، بل كفل الطلبة من جميع الوجوه حتى في توفير مساكن لهم ملحقة بالمدارس تساعد الطلبة على التفرغ لدراستهم، حتى اشتهرت بعض المساكن الدراسية بخدمات راقية، يقول المقريزي في الخطط (2/371) عن المدرسة الصاحبية إنها كانت من اجل مدارس الدنيا واعظم مدرسة بمصر، يتنافس الناس من طلبة العلم في النزول بها، ويتشاحنون للسكن في بيوتها حتى يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الاثنان من طلبة العلم والثلاثة، وليس هذا فقط بل خصص للطلبة في هذه المدارس من اموال الوقف مبالغ مالية اجريت عليهم شهريا. وإذا كان السابقون قد ادوا ما عليهم تجاه تقدم هذا المجتمع وازدهاره بما أوقفوه على العلم والعلماء وما أقاموه من مؤسسات علمية من مساجد ومدارس، حتى استلمنا راية الحركة العلمية بعدهم، مع ما شابها من آثار الاستعمار الذي سعى للقضاء على هذه البقية، إذا كانوا قد فعلوا ذلك فإنه قد جاء دورنا لنبقي هذا البصيص من الضوء ونزيد في زيت السراج وننشر نور النهضة العلمية العربية والإسلامية في ربوع العالم، وقد قيض الله لنا مشروعا عظيما جعله الله املا لنا في المرحلة القادمة، مشروعا قوميا يعد مفتاحا للنهضة العلمية في القطر المصري والعربي والإسلامي، وهو مشروع زويل للعلوم والتكنولوجيا، فوجب علينا ان نستعين بما رزقنا الله به من مال وفق نظام الوقف الذي شرعه الله لنا سبيلا لأمثال هذه المشروعات، حتى نقوم بما خلقنا لاجله، وهو عبادة الله تعالى، واعمار الارض، وتزكية النفس. نقلا عن جريدة الأهرام