في الخامس من أكتوبر الجاري خطت فلسطين أولى خطواتها نحو اكتساب العضوية في منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، وذلك عندما صوت المجلس التنفيذي للمنظمة لمصلحة عضوية فلسطين فيها بأغلبية أربعين صوتاً من أصل ثمانية وخمسين، مع العلم بأن المعترضين على الطلب كانوا أربعة فقط في مقدمتهم الولاياتالمتحدة وإسرائيل بطبيعة الحال ومعهما ألمانيا ولاتفيا. أما الأصوات الباقية وعددها أربعة عشر فقد امتنعت عن التصويت للأسباب المعروفة لسلوك الامتناع عن التصويت في المنظمات الدولية، علماً بأن فرنسا وإيطاليا وإسبانيا كانت ضمن هذه الأصوات الممتنعة، مما يعني أن أربعاً من الدول الأوروبية المهمة إما أنها لم توافق على الطلب (ألمانيا) أو امتنعت عن التصويت عليه (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) الأمر الذي يعزز نموذج المواقف الدولية في هذا الصدد: تأييد مطلق لإسرائيل من قبل الولاياتالمتحدة، ومواقف مائعة لقوى أوروبية مهمة في وجه أغلبية دولية مغلوبة على أمرها تؤيد الحق الفلسطيني. لم تنته معركة قبول فلسطين عضواً في اليونسكو بعد، فما فعله المجلس التنفيذي ليس سوى توصية ترفع إلى مؤتمرها العام على المستوى الوزاري الذي سيعقد في نهاية الشهر الجاري، ويضم ممثلين عن مئة وثلاث وتسعين دولة تتطلب الموافقة النهائية على عضوية فلسطين أن يصوت ثلثا هذا العدد على الأقل لمصلحة الطلب، أي بما يعادل مئة وخمس وعشرين دولة على الأقل، وعلى رغم أن هناك مئة وخمساً وستين دولة تعترف الآن بدولة فلسطين مما يعني توفر أغلبية مريحة للموافقة على عضوية فلسطين إلا أن الجانب العربي وبالذات الفلسطيني لا ينبغي أن يركن إلى هذه الحقيقة، لأن الإدارة الأميركية عودتنا على ممارسة ضغوط قاسية على المؤيدين للحق الفلسطيني، وقد يُستخدم التهديد ضد هذه الدول بإغلاق الباب أمام أي تعاون مستقبلي بينها وبين الولاياتالمتحدة، أو التلويح بقطع مساعدات اقتصادية تقدم لها، وقد يتم على العكس اللجوء إلى أسلوب الإغراءات بمعنى الوعد بتقديم مثل هذه المساعدات أو تقديمها بالفعل للدول التي يراد تحويلها عن موقف التأييد لعضوية فلسطين. ولذلك فإن عدم المتابعة من قبل الجانبين الفلسطيني خاصة والعربي عامة بسبب الاطمئنان إلى وجود أغلبية مؤيدة لفلسطين سيمثل خطأً جسيماً. وبصفة عامة بدأت الإدارة الأمريكية معركتها بالفعل في هذا الصدد، حيث صرح ممثلها لدى اليونسكو بأن "السلام لن يعود بالقرارات والتوصيات في الأممالمتحدة، ولو كان بهذه السهولة لكنا توصلنا إلى ذلك"، وأضاف: "نحض كل الدول على معارضة هذا القرار". ومن ناحيتها فسرت مصادر فرنسية سبب الامتناع عن التصويت بأن الخطوة "إجرائية وسابقة لأوانها"، وأنه ينبغي انتظار ما سيحدث الشهر المقبل. وثمة ملاحظتان على هذين الموقفين: أولاهما بالنسبة للموقف الأمريكي الذي كرر كثيراً مقولة إن السلام لا يصنع داخل الأممالمتحدة، وإنما بموجب المفاوضات الثنائية بين طرفي المشكلة. والسؤال البديهي هنا: لماذا تجشمت الدول مشقة إنشاء الأممالمتحدة إذن؟ ولماذا تثابر على نشاطها فيها إذا لم تكن هذه المنظمة قادرة على الوفاء بأبسط وظائفها وهو حفظ السلم والأمن الدوليين؟ أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالموقفين الأمريكي والفرنسي معاً، فمن الواضح أنهما ينظران إلى عضوية فلسطين في اليونسكو باعتبارها مجرد جزء من المخطط الفلسطيني للحصول على العضوية الكاملة في الأممالمتحدة، وهو موقف ينطوي على جوانب صحيحة، ولكنه في الوقت نفسه يبسِّط الأمور على نحو مخل، فمن قال إن عضوية فلسطين في اليونسكو سوف تصادر على إجراء مفاوضات مع إسرائيل إن توفرت شروطها العادلة؟ ومن قال إن هذه العضوية ستصبح بلا جدوى إذا تمكن الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي من الدخول في مفاوضات بعد شهر من الآن مثلاً؟ إن عضوية فلسطين في اليونسكو مطلوبة لذاتها من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية لشعب تعرض لأبشع صور الاحتلال منذ ما يزيد عن ستين عاماً، وهذا هو ما يخيف إسرائيل، ويجعلها تضغط على حلفائها وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة من أجل منع حدوثه. ذلك أن إسرائيل منذ إعلان تأسيسها قبل أكثر من ستين عاماً لم تجد في حفرياتها ما يشير إلى وجود فعلي لدولة يهودية أو حضارة يهودية على أرض فلسطين، ولو حدث لملأت إسرائيل الدنيا جعجعة بأن هذا التراث الثقافي يمثل أقوى سند لشرعية قيام الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين. وعندما فشلت إسرائيل في هذا بدأت عملية سطو ثقافي على التراث الفلسطيني، فبدلاً من حفريات قد تفضي إلى رموز تراثية لوجود يهودي قديم لا مانع من سرقة التراث الفلسطيني وتسميته بمسميات عبرية ونسبته إلى إسرائيل، أي أن إسرائيل تحاول أن تدعم الاحتلال العسكري باستلاب ثقافي. وقد أدى هذا كما هو معلوم إلى معارك شرسة في اليونسكو من أجل العمل على منع تسجيل التراث الفلسطيني باسم إسرائيل، غير أن هذه المعارك لم تكن متكافئة في كل الأحوال. وقد قادت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (المقابل العربي لليونسكو) الجهد العربي في هذه المعارك، ونسقت بين أطرافه، غير أن إمكاناتها لم تسمح لها بحضور مستقر بعد أن انقض عليها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للجامعة العربية بسيف إعادة الهيكلة -كما انقض على غيرها- وحرمها من وجود مكتب دائم لها في مقر اليونسكو بإمكانات معقولة، الأمر الذي لم يمكنها من المتابعة الفورية للمحاولات الإسرائيلية. أما بعد عضوية فلسطين في اليونسكو فسوف يختلف الأمر جذريّاً، وسوف يكون بمقدور ممثلي فلسطين أن يحولوا دون تنفيذ إسرائيل مخططاتها في هذا الصدد، وهو الأمر الذي سوف يحرم الاحتلال من مصدر مهم لشرعية مشروعه الاستيطاني الإحلالي. غير أن مردود العضوية الفلسطينية في اليونسكو لن يقف بالنسبة لفلسطين عند هذا الحد، فمن المعروف أن الاحتلال قد خلق واقعاً تربويّاً وعلميّاً وثقافيّاً كئيباً في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة من مناهج دراسية تحاول طمس الهوية الفلسطينية إلى إهمال تام لإعادة بناء المنشآت التعليمية التي دمرتها إسرائيل في أعمال العدوان المتكررة على أرض فلسطين وشعبها، وسيكون فضح الجرائم الثقافية لإسرائيل بحق الشعب الفلسطيني سلوكاً دائماً لممثلي فلسطين في اليونسكو كلما حدث ما يستوجبه، كما ستتمكن فلسطين بالتأكيد من الحصول على مساعدات مفيدة من اليونسكو من أجل مواجهة محاولات الاستلاب الثقافي لفلسطين، ولذلك فإن الولاياتالمتحدة لن تتوقف عند حربها ضد العضوية الفلسطينية في اليونسكو، فإذا ما خسرت هذه المعركة لابد لنا من أن نتوقع من الإدارة الأمريكية في هذا الصدد أن تكرر واقعة تعليق عضويتها في اليونسكو، وحرمانها من النصيب الضخم الذي تدفعه في ميزانيتها، الأمر الذي سيسبب لليونسكو إرباكاً ماليّاً شديداً، ولكن ظني أن معظم الدول الأعضاء في هذه المنظمة سيفضل العمل في ظروف مالية أسوأ بسبب الموقف الأمريكي المحتمل على الانصياع الكامل للإرادة الأمريكية. لن تعيد عضوية فلسطين في اليونسكو الحقوق لأصحابها، فالأمر يحتاج إلى استراتيجية متكاملة لتحقيق هذا الهدف، لكن عضوية اليونسكو سوف تضيف لفلسطين بالتأكيد زخماً معنويّاً يكون خير دافع لأشكال النضال الأخرى. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية