في الوقت بدل الضائع بلغة أهل الكرة وبينما تستعد أركان إدارة بوش أو ما تبقي منها للملمة أوراقها وفضائحها خطت تلك الإدارة خطوة جديدة علي طريق الانحياز الأعمي لإسرائيل والدعم غير المحدود لها من خلال توقيع عقد مع الحكومة الإسرائيلية لبيعها صواريخ جوية وبحرية حديثة. ومن طرازات مختلفة, في صفقة تبلغ قيمتها نحو650 مليون دولار بينما مازالت التصريحات الهلامية عن مؤتمر دولي للسلام تتوالي من جانب بعض المسئولين الأمريكيين وترتيبات عقده في الخريف المقبل بنيويورك تجري علي قدم وساق!! وتأتي هذه الخطوة الجديدة بعد مرور أقل من شهر علي إعلان هذه الإدارة الخرقاء عن تخصيص نحو30 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل علي مدي السنوات العشر المقبلة. وهو ما يعني إلزام إدارتين أمريكيتين مقبلتين بتلك المساعدات في إطار الالتزام الأمريكي بضمان التفوق النوعي لإسرائيل علي الدول العربية مجتمعة . ولتشجيعها علي القيام بمخاطرة محسوبة لتحقيق السلام مع جيرانها حسب تعبير المتحدث الأمريكي شون ماكورماك! السلام.. كيف؟ ويعجب المرء وهو يتابع أنباء هذه الصفقات والمساعدات العسكرية الهائلة, من منطق هذه الإدارة وإن لم يكن جديدا تماما وتصورها لإمكان تحقيق السلام في المنطقة من خلال بناء المزيد من ترسانات الأسلحة, وتكديس الأنواع الأكثر فتكا وتطورا في مخازن الجيش الإسرائيلي وهو جيش تقوم عقيدته القتالية علي الاعتداء والإحساس المتضخم بإمكان سحق خصومه, والرغبة غير المسئولة في الإبادة والتدمير. لكن ما يلبث أن يتبدد هذا العجب حين نلحظ أن كل ادعاءات واشنطن بشأن السلام ما هي إلا محض أكاذيب ومحاولات يائسة لذر الرماد في العيون وإلهاء الشعوب وشغلها عن المسار الحقيقي الذي تدفع إليه هذه الإدارة المنطقة وهو مسار أقل ما يمكن وصفه بأنه أبعد ما يكون عن إرادة تحقيق السلام والاستقرار. ويشير عدد من المراقبين إلي التزامن اللافت بين دعوة بوش لمؤتمر الخريف وبدء التحرك العربي لتفعيل مبادرة السلام التي أكدتها قمة الرياض الأخيرة و هو نهج ليس غريبا علي الإدارة الأمريكية الحالية, حيث إنه من الملاحظ أنه في كل مرة كان هناك تحرك عربي جاد لتحقيق السلام كان هناك تحرك أمريكي مواز لإجهاضه. ولا ننسي في هذا السياق تزامن إطلاق خريطة الطريق التي ضلت طريقها في أكتوبر2002 مع خطة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت قبل ذلك بأشهر. ومثلما لم تتخذ الإدارة الأمريكية أي خطوة جديدة علي طريق تجسيد هذه الخريطة ونقلها من مستوي الطرح النظري إلي أرض الواقع وتحقيق رؤية بوش حول حل الدولتين التي أصابنا المسئولون الأمريكيون بالصداع من كثرة ترديدها علي مسامعنا. جاءت تصريحات بوش عن مؤتمر الخريف للسلام تفتقر إلي الجدية والإجرائية بل إن جميع الأطراف باستثناء إسرائيل بطبيعة الحال مازالت تضرب أخماسا في أسداس عن الموعد المحدد لهذا المؤتمر ومكانه النهائي وأجندته وجدول أعماله والأطراف التي ستتم دعوتها إليه والترتيبات العملية التي ستسبقه خاصة أن ما يفصلنا عنه نظريا أسابيع وليس أشهرا وكلها تساؤلات لم تستطع الإدارة الأمريكية وربما لا ترغب في تقديم إجابات شافية عنها وهو ما أشار إليه أبومازن بعد خروجه من لقائه الأخير بأولمرت في منزله حين قال: إن كوندوليزا رايس لم تتمكن من إبلاغه في اتصال هاتفي معها بموعد المؤتمر أو بمن سيحضر هذا المؤتمر أو بنود جدول أعماله وهو ما أشار إليه أيضا صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين حين أكد أنه لم يتم تسلم الدعوة للمؤتمر الدولي وأنه لا يعتقد أن أي طرف في المنطقة تسلم هذه الدعوة ولعل ما يؤكد عدم جدية إدارة بوش في طرحها الأخير بشأن هذا المؤتمر هو ما جاء علي لسان بوش نفسه لدي طرحه هذه الفكرة في منتصف يوليو الماضي حيث خلا تقديمه من أي تفاصيل بشأن هذا المؤتمر والقضايا الجوهرية التي سيبحثها, مكتفيا بالإشارة المتكررة إلي حل الدولتين, ومطالبا بإزالة الحواجز وإنهاء وهم عدم وجود إسرائيل! وليس أدل علي افتقار هذه الإدارة للجدية في طرحها المزعوم بشأن المؤتمر الدولي من تركها طرفي النزاع الأساسيين الفلسطينيين والإسرائيليين يخوضان محادثات, كانت آخرها المحادثات المنزلية في بيت أولمرت بالقدس, دون أي رعاية أو حضور فاعل وضامن لأي اتفاق مبدئي ثنائي من شأنه تمهيد الطريق للمؤتمر الدولي, وهي فرصة كان يمكن أن تنتهزها تلك الإدارة لإثبات جديتها في التحضير للمؤتمر الدولي المقترح, ناهيك عن غياب أي تصور أو تحرك أمريكي باتجاه الأطراف الأخري المعنية بالعملية السلمية, لاسيما دمشق, وهو ما يلقي ظلالا كثيفة من الشك حول حقيقة نيات إدارة بوش إزاء إرساء سلام حقيقي ونهائي في المنطقة. السلاح.. لماذا؟ أما ثالثة الأثافي التي تقطع بالافتقار إلي الجدية في طرح المؤتمر المزعوم, فقد تمثلت في هذا الطوفان من الصفقات والمساعدات العسكرية الأمريكية المتدفقة علي إسرائيل, التي يجد المتابع صعوبة بالغة في حصرها من فرط تعقيدها وتواترها, فمن قنابل ذكية, إلي مقاتلات من طراز إف35 وفالكون وإف16 وإلي وايجل إف15, إلي طائرات نقل من طراز هركوليز, إلي ذخائر وصواريخ جو جو من طراز إم إم متوسطة المدي, وصواريخ جو جو قصيرة المدي من طراز سايد وايندر, وصواريخ أرخوم البحرية, ووقود طائرات.. إلي آخر تلك الأنواع من أحدث الأسلحة وأكثرها فتكا, وبعض تلك الأسلحة والذخائر لم يدخل الخدمة في الجيش الأمريكي إلا أخيرا مثل طائرات ال إف22, وبعضها سيتم تصنيعه العام المقبل, بمعني أنه قد يدخل الخدمة في الجيش الإسرائيلي متزامنا وربما قبل أن تراه مخازن الجيش الأمريكي نفسه. والغريب أنه, علي عكس نهج إدارة بوش في التسويق النظري والهلامي لخطط ومؤتمرات السلام, فإن تلك الإدارة, وفيما يخص صفقات الأسلحة لإسرائيل, لا تتوقف عند مجرد الالتزام الشفهي أو التعهد المعلن, حيث بدت خلال الأشهر القليلة الماضية كمن هو في سباق مع الزمن لتوقيع الاتفاقيات وعقود الأسلحة والمساعدات العسكرية والتعاون المشترك في هذا المجال, وضمان تصديق الكونجرس بمجلسيه علي تلك العقود والاتفاقيات. وعلي سبيل المثال فقد وقعت تلك الإدارة في أكتوبر الماضي علي اتفاقيات ومشروعات للدفاع المشترك مع إسرائيل بتكلفة تزيد علي500 مليون دولار, وفي16 أغسطس الماضي تم التوقيع علي بروتوكول لتقديم مساعدات عسكرية بقيمة3 مليارات دولار سنويا, بنسبة زيادة تقدر ب25% من الأعوام الماضية, حيث كانت قيمة تلك المساعدات في حدود2,4 مليار دولار, وأخيرا وبالتحديد قبل أيام تم التوقيع علي عقد ال650 مليون دولار لشراء الصواريخ الجوية والبحرية الحديثة, بالإضافة إلي وقود الطائرات. ويقود كل هذا الكم من الاتفاقيات والعقود إلي سؤال جوهري: هل هذه المساعدات يمكن أن تحقق السلام ناهيك عن التشجيع عليه؟ أم أنها علي العكس من ذلك تماما ستزيد من حالة الحنق والاحتقان المزمن في المنطقة وتلهب مشاعر أبنائها أكثر إزاء ما يرونه من استفزاز أمريكي سافر للدول العربية وتشجيع مبطن لربيبتها إسرائيل في التمادي في نهجها المتعنت والعدواني تجاه الفلسطينيين وبقية أبناء العالم العربي مستندة إلي هذا السخاء والتدفق المستمر للمساعدات العسكرية وفي غياب أي ضغط أمريكي لإجبارها علي القبول باستحقاقات السلام العادل والشامل, أو اتخاذ أي خطوة جوهرية علي هذا الطريق؟ الإجابة لا تبدو صعبة فالسلام لا يمكن أن يقوم علي ضمان التفوق العسكري والتسليحي لأحد أطراف الصراع علي الطرف الآخر أو بقية الأطراف بل إنه ينبني علي مصداقية الراعي ونزاهة الوسيط وحسن النيات المصحوب بإجراءات لبناء الثقة وتخفيف التوتر والتوازن والردع المتبادل وإعادة الحقوق المشروعة إلي أصحابها, وضمان العيش الآمن للجميع.