الثورة السورية هى أكثر ثورات الربيع العربى دموية، بشار لا يزال يمتلك فى يديه أسلحة يوجهها إلى صدور شعبه الثائر، مستندا إلى دعم من عدد من الدول ترى أن فى بقائه قوة ونفوذا لها فى المنطقة مثل إيران، كما أن الصين وروسيا تعتبرانه حليفا لهما، بشار لن يستسلم بسهولة وأمامه شبح يلوح وهو مصير القذافى. بشار يعلم أن الحرب ليست ذخيرة فقط يطلقها عبر فوهات مدافعه، ولا هى صواريخ مدمرة تدك بيوت الشعب السورى الثائر، ولكنه لديه ذخيرة ناعمة يطلقها عبر «الميديا»، وهكذا وجدنا محطات فضائية تمولها أجهزة المخابرات ومسلسلات تقف وراءها أجهزة أمنية. ليس مهما أن تقول رأيا مؤيدا لبشار فى البرنامج أو المسلسل ولكن المطلوب هو أن تصدر للرأى العام أن سوريا تعيش حياة عادية، فلا ثورة ولا شهداء ولا دماء زكية تراق على الأرض.
آخر الأسلحة التى يشهرها بشار هى الأفلام السينمائية، وهكذا حاول أن يخترق عددا من المهرجانات. لا أتصورها صدفة أن يرسل فى نفس الوقت فيلم «العاشق» إنتاج مؤسسة السينما السورية لكل من مهرجانى القاهرة ودبى، وأن تزداد الجرعة المرسلة إلى مهرجان دبى بفيلمى «مريم» و«صديقى الأخير» من إنتاج شركات خاصة مؤيدة للنظام، بحجة أن هذه السينما وأن الثقافة تعلو على السياسة. رغم أن الأمر منذ اندلاع ثورات الربيع أسقط تماما هذا الخط الفاصل بين الثقافى والسياسى. مهرجان القاهرة كان منوطا به أن يدرك ذلك من الوهلة الأولى، ولكنهم صمتوا لولا أن البعض أشار وبينهم كاتب هذه السطور إلى أن فيلم «العاشق» إنتاج «المؤسسة العامة للسينما» التى تُنزِل أشد عقاب بأى فنان يقف فى صف الجماهير، أو حتى يُمسك العصا من المنتصف.
المطلوب من المثقف السورى هو الخضوع المطلق لبشار. المخرج عبد اللطيف عبد الحميد واحد من أفضل مخرجى سوريا هذه حقيقة، ولكنه فى نفس الوقت هو الأقرب إلى النظام، والتاريخ يعلمنا أن بعض الموهوبين يتم استقطابهم لصالح الأنظمة. والحقيقة أن بشار كان حريصا على أن تصبح المؤسسة العامة للسينما التى تضم القسط الوافر من الفنانين، هى القوة العميقة التى يلجأ إليها للسيطرة على المثقفين. الثورة أعادت الأمور إلى مسارها الطبيعى. النظام يستعين بالطائفة العلوية التى تتحول فى لحظات للدفاع عن مصالحها. أتذكر فى إحدى دورات مهرجان دمشق السينمائى، ربما قبل سبع سنوات، وجدت تحت باب الغرفة فى الفندق الذى أقيم فيه منشورا عنوانه «مهرجان دمشق السينمائى العلوى»، فى إشارة واضحة إلى أن المؤسسة التى تقيم المهرجان تُصبغه باللون «العلوى». لا أريد الخوض كثيرا فى موقف بشار ولجوئه إلى الفرز الطائفى فى تعيينه لكثيرين فى المواقع الحساسة فى البلد، ولكن المؤكد أن الأجهزة تتولى السيطرة على المثقفين، وأن هناك توترا كنا نشاهد جنبات منه قبل الثورة السورية من خلال احتجاج هنا وهناك، بل إن المخرج السورى أسامة محمد وهو من الطائفة العلوية، إلا أنه انضم إلى الثوار متجاوزا انتمائه الطائفى. إنها معركة سياسية ألقت بظلالها على كل المهرجانات عالميا وعربيا، مثلا فنان سورى كبير مثل دريد لحام الذى كان هو الاسم الأول الذى تتم دعوته فى المهرجانات العربية اختفى تماما من خريطة هذه المهرجانات منذ قيام الثورة السورية، ولا نراه لا فى القاهرة ولا دبى أو الدوحة أو وهران، أليس هذا انتقاء ثوريا؟ دريد له رصيده الفنى والجماهيرى ولكنه واحد من أذرع النظام منذ الأسد الأب، وعندما قامت ثورة التحرر كان من الممكن أن يصرخ ويحكى، ولكنه ظل على موقفه المؤيد والداعم للأسد الابن. المهرجانات فى العالم كله ضبطت إيقاعها على موجات ثورات الربيع العربى ولعبتها سياسة. «كان» و«برلين» و«فينسيا» عرضت الأفلام التى تنحاز للثورة فى مصر وتونس وليبيا وسوريا، ولم تسمح بأى فيلم يقف محايدا. فلا يمكن لأحد الآن أن يقف على نفس المسافة بين القاتل والقتيل.
لماذا يقول البعض فى تلك اللحظات الفارقة لا للسياسة فى الأنشطة الثقافية، تابعت حالة «الشحتفة» التى انتابت عددا من الزملاء وهم يعلنون غضبهم لاستبعاد «العاشق» فى اللحظات الأخيرة من فاعليات مهرجان القاهرة، رغم أنها عودة إلى الوعى المفقود. لا شك أن مهرجانى القاهرة ودبى برفضهما تلك الأفلام وجها ضربات موجعة لبشار، وفى نفس الوقت بعثا رسالة للثوار تقول نحن معكم.