إلهى الحبيب: اسمح لى يا رب العزة والجلال أن أبدأ رسالتى بمخاطبتك بإلهى الحبيب.. فقد نشأت على حبك قبل خشيتك.. واعذرنى على كتابة رسالة إليك.. وأنا أعلم أننى لا أحتاج إلى هذا.. فأنت أقرب إلىَّ من حبل الوريد وتعلم ما بنفسى سواء أبديته أو أخفيته.. أكتب إليك لتغيثنى وتهدينى وتعيدنى إلى أمان كنفك.. فأنا هارب منك إليك.. أنا مؤمن بك وبملائكتك وكتبك ورسلك.. وأُشهِدك وأشهد حملة عرشك وجميع خلقك أنه لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك.. وأن محمدا عبدك ورسولك.. ولكننى تدريجيا أفقد هويتى.. لا أعلم لأى فصيل أنتمى.. فحاليا.. لا يوجد مكان لأمثالى.. فأنا لا أنتمى إلى الإخوان ولا السلفيين ولا الجهاديين ولا غيرهم ممن احتكروا لأنفسهم صفة الإسلاميين ورفعوا راية الإسلام لتظلهم ولا سواهم..
أشعر بالخوف والحزن والأسى.. يتمزق قلبى وأنا أشعر بالغربة تجاه دينى.. أشفق على أولادى لأنهم لن يعرفوا الدين كما عرفته.. أحزن على الإسلام العظيم وقد اُختصر فى لافتة انتخابية وشعارات جوفاء وعصبية جاهلية ومظاهر سطحية.. أخشى على مصر.. بلدى الحبيب أن يمزقها التعصب وتعصف بها المؤامرات وتلحق بمن سبقها من أقطار تمزقت أوصالها وتشتت أبناؤها وضاع إرثها الحضارى باسم الإسلام السياسى..
تدريجيا أفقد هويتى.. فلا يوجد مكان لأمثالى.. فأنا لا أنتمى إلى الإخوان ولا السلفيين ولا الجهاديين ولا غيرهم ممن احتكروا لأنفسهم صفة الإسلاميين
حاولت أن أفهمهم.. وسمعت خطبهم وحواراتهم وقرأت ما كتبوه واستشهدوا به.. بحثت عن روح الإيمان فى دعواهم.. نظرت فى عيونهم لعلى أرى الصفاء والسكينة.. عجبت وأنا أرى الكذب والنفاق والرياء والنكث بالعهود وعدم الوفاء بالوعود وقد صارت كلها حلالا.. بحكم أن الضرورات تبيح المحظورات.. وما الضرورات هنا إلا الجشع للسلطة.. وأصبح كلامك الكريم أداة يشترى بها ثمنا قليلا.. فكانت ردة فعلى أن صرخ قلبى وضميرى قائلَين: لكم دينكم ولى دين..
وأفقت من غضبى على مدى فداحة ردة فعلى.. ماذا أقول؟ ولكن سامحنى يا ربى.. فبما يدعون ويهتفون.. وبنبذهم بل وأحيانا تكفيرهم لمن يختلفون معهم فى الرأى وتصنيفهم كعلمانيين كفرة أو ليبراليين فاسقين.. لا أجد لى مكانا تحت الراية التى رفعوها عنوة وغصبا واستأثروا بها لأنفسهم صفة الإسلاميين..
إذا كانوا هم فقط المسلمين والإسلاميين فماذا أكون؟
هل أنا مؤمن؟ هل أنا مسلم؟ هل أنا أقل إيمانا منهم؟ ومن الحكم فى هذه القضية؟
يا رب.. وقف الشيطان متربصا بى بكل ما يملك من وساوس وتضليل.. وكاد يدفعنى إلى أكثر من هاوية.. وعلى حافة الهاوية.. كنت أرى يدك تمتد لتنقذنى فى اللحظة الأخيرة.. لم تكن يدا واحدة بل يدان بسطتهما لإنقاذى.. إحداهما العلم والأخرى اليقين.. نعمتان أنعمت بهما علىّ.. وبهما استنارت بصيرتى لأتأكد من هويتى ويطمئن قلبى.. رغم أنف المدعين.
إيمانى بك ليس بحكم النشأة أو العادة.. بل هو إيمان وقَرَ فى قلبى مؤيدا بكل ما تفضلت علىَّ به من علم وبصيرة.. فعندما تفكرت فى خلق السماوات والأرض.. وجعلت العلوم الطبيعية والرياضية طريقى.. رأيت بصمتك على كل شىء.. ورأيت توقيعك واضحا على جميع مخلوقاتك.. كلها يردد ويؤكد:
هذا الكون بكل ما فيه من مرئى ومسموع ومحسوس خلق بيدك يا الله يا بارئ يا مصور.. ولم يشاركك أحد فى الخلق والتدبير.. كيف أُنكر ذلك وأنا أرى توقيعك واضحا.. شاهدا على الجمال والكمال.. ليس فقط فى ما أبدعت يدك.. ولكن فيما أبدعته أيادى وعقول عبادك الذين اصطفيتهم بنعمة الاختراع والفن والإبداع.. معبرين عن ما يسرى فى نفوسهم من روحك.. أيها الخالق الكريم.. بديع السماوات والأرض.. حقا.. (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار)..
وانسابت الذكريات لتحمل مواقف أحسست بقربك منى كأنك بيدك الكريمة تمسح دموعى أو تربِّت على كتفى.. تذكرت الأوقات التى كنت ألجأ إليك بالدعاء أو الشكوى فكأنى أسمع الإجابة وأرى الاستجابة.. حقا قولك (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ).. كم من مواقف بلا حول لى ولا قوة سترتَنى.. حميتَنى.. أمَّنتَنى.. رزقتَنى.. هديتَنى.. أسعدتَنى.. عزيتَنى.. عوضتَنى..
وما أنا إلا عبد ضمن مليارات من عبيدك ومخلوقاتك.. ولكنك كما قلت قد وسع كرسيّك السماوات والأرض ورحمتك وسعت كل شىء.. وأخبرتَ فى فاتحة كتابك.. أنك رب للعالمين..
فلماذا يدّعونك لأنفسهم؟
أعجب يا ربى من عبادك الذين يكررون فى صلاتهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) سبع عشرة مرة يوميا.. ثم يريدون أن يستأثروا بك لأنفسهم..
يا خالق الكون.. يا بديع السماوات والأرض.. لقد ذكرت ما يحدث الآن فى كتابك الكريم.. وحذرت منه: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).. هل ابتليت بعض قومنا بالوهم بأنهم شعب الله المختار الجديد؟
يا رب.. أدعوك من كل قلبى وأسألك رحمة من عندك تهدى بها قلوبنا.. وتجمع بها شملنا.. وترد بها الفتن عنا.. وتصلح بها دنيانا.. وتحفظ بها ديننا.. وتزكى بها أعمالنا.. وتلهمنا رشدنا.
لن أستسلم.. فأنت ربى ورب العالمين.. لن يستأثر بك أحد ولن يهتز إيمانى بوجودك ووحدانيتك ورحمتك.. (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).
آمنت بك.. وملائكتك أؤمن بهم كواقع غيبى أخبرتنا به فقبلت به إيمانا وتصديقا لما أقررته أنت ورسولك الصادق الأمين..
تبحرت فى فهم كتابك. القرآن الكريم.. باحثا فى إعجازاته اللغوية والعلمية والرقمية.. وتجلى لى بوضوح أنه حقا كما قلت.. (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير).
أما رسلك المبشرون المنذرون.. فقد قرأت بشغف سيرتهم.. وآمنت بهم كحملة رسالة واحدة.. متدرجة ومتكاملة.. أخذت بيد بنى آدم فى رحلة طويلة من الظلمات إلى النور. آمنت بما أنزلت عليهم من كتب.. وأكبرت دورهم فى تنوير البشرية وتعريف الناس بك وبمناسك عبادتهم لك.. وهدايتهم إلى الطريق المستقيم الذى وضعته وارتضيته لهم ليحققوا الغرض الذى خلقوا من أجله.. ألا وهو عبادتك والخلافة فى الأرض ليعمروها كما قدرت..
برحمتك التى وسعت كل شىء لم تحرم أمة من رسول يهديها.. وذلك على مر التاريخ وعبر أقطار الأرض.. هذا ما فهمته من آياتك.. وهناك رسل لم تقصصهم علينا.. فلماذا نصر أن النبوة شرف لم تختص به سوانا.. ورغم دعوتك للإيمان بكتبك ورسلك.. وأن لا نفرق بين أحد من رسلك.. يتسع نطاق القبلية والتعصب ليشكك ويرفض كل ما هو غير مسلم أو ما يدّعون أنه مخالف للإسلام.. وكحق يراد به باطل.. تستخدم كلماتك الكريمة (إن الدين عند الله الإسلام).. كراية ترفرف فى المظاهرات وشعار يهتف به فى المؤتمرات السياسية..
وينسى أو يتناسى هؤلاء ما احتواه كتابك الكريم من تأكيد بأن الإسلام هو الدين الواحد الذى أنزلته بالتتابع على جميع رسلك.. وأن صفة المسلم أعم وأوسع من أن يحاولوا أن يستأثروا بها لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام بل فقط لبعضهم..
فها هو نوح عليه السلام يقول (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وأبو الأنبياء خليلك إبراهيم عليه السلام كان حنيفا مسلما.. واصطفى الإسلام لبنيه وأحفاده..
وأخذت أبحث فى معناها.. وما الفرق بين الإسلام والإيمان.. فوجدت الإسلام فى اللغة يعنى الانقياد والاستسلام.. أما التفسير الشرعى له فهو انقياد مخصوص أقله النطق بالشهادتين. أما الإيمان فى اللغة فيعنى التصديق وفى الشرع هو تصديق مخصوص أقله التصديق القلبى بمعنى الشهادتين.. أما كلمة (لما) فإذا جاء بعدها فعل مضارع فإنها تفيد النفى.
شعرت بقيمة هذه الآية الكريمة.. ومدى أهمية أن نستحضرها جميعا نصب أعيننا فى هذه المرحلة.. يجب أن يسأل كل منا نفسه.. هل أنا مؤمن أم مسلم فقط؟.. فالفرق كبير..
■ ■ ■
واجهت السؤال الأزلى.. لماذا خلقتنا؟ وما الهدف من وجودنا على هذه الأرض؟ وعلى الفور تبادر إلى ذهنى قولك الكريم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ).. كنت واضحا.. فقد خلقتنا لنعبدك.. والعبادة هى التوحيد.. ولكى نعبدك ونوحدك لا بد أن نعرفك.. وخلال رحلة المعرفة والعبادة.. أى رحلتنا على الأرض.. فلا يجب أن نحمل الهموم فأنت ترزقنا وتطعمنا..
وقد لخص رسولك الكريم روح العبادة فى حديثه لمعاذ بن جبل عندما قال له: «يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» فقال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» فقال له معاذ: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا».
العدل.. التنوع والتعددية.. الرحمة والإحسان.. الحرية.. هذه سننك التى أرسيتها ودعوت إليها فى كتابك الكريم كناموس لعبادك.. ومن الطبيعى أن يلتزم بها الإنسان كخليفة فى الأرض.
ولكن أين تقف الفاشية الدينية من هذا؟.. ها هى المبادئ التى أرسيتها.. فليأخذوا بها ويطبقوها.. وعندها سيكونون جديرين براية الإسلام التى يتخفون تحتها.. وسنتبعهم جميعا.
لو طبق العدل واحترم التنوع والتعددية.. لو طبق ما أمرت به من الحرية.. فالناتج هو المساواة.. وحرية الرأى والتعبير.. ولن ينظر لفئة على أنها أقلية.. وبالرحمة والإحسان سيسود الاحترام للفرد وأفكاره ومعتقداته.. ولن يستخدم الترهيب ولا العزل كوسيلة لمحاربة الرأى الآخر..
.. ولكنهم لن يفعلوا..
فإن فعلوا فكيف سيمارسون الإقصاء والتكفير.. كيف سيحجرون على الآراء ويعزلون أصحاب المبادئ والأفكار والعقائد الأخرى.. كيف سيحصدون الأصوات الانتخابية عزفا على الذى اغتصبوا لأنفسهم احتكار التحدث باسمه؟ على وتر الدين. يا رب.. عندما جعلت آدم خليفة فى الأرض.. ومن بعده ذريته.. هل سننت لهم أن يعمروا الأرض بالفرقة والتشرذم؟ هل دعوتهم أن يطبقوا ناموسك فيها عن طريق الفتن والتفرقة وتكفير من يخالفهم؟ هل قلت لهم إن الترهيب والصدام وهما طريق الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها؟ يا رب.. هل ستترك هؤلاء يتسببون فى تفريق أبناء الوطن الواحد بل والدين الواحد وتصعيد العنف لتسيل دماء عبادك.. وباسم من؟ باسمك واسم دينك القويم؟