الذين كانوا يداهنون النظام السابق ويتحسسون الكلمات عن مبارك ويثرثرون طول الوقت تشدُّقًا بالمهنية لتبرير التخنث السياسى، وبالحياد لتجميل الميوعة تجاه استبداد النظام السابق، هم أنفسهم الذين يتحدثون الآن بنفس دروسهم الخائبة عن المهنية والحيادية مع الرئيس مرسى! الرئيس له حق واحد على الصحافة، وهو أن لا تذْكُر عنه أو عن غيره كائنًا من كان معلومة خاطئة أو خبرًا ملونًا أو كاذبًا، وفى ما عدا ذلك فمواقف وقرارات وخطب وكلمات وأفكار وسياسة الرئيس مباحة متاحة للنقد والهجوم «كما للتحية والمدح عند مؤيديه وموالسيه وداعميه وزملائه فى الجماعة والمتعاطفين معها والمنافقين لها والخائفين منها». حين كنّا نواجه فى صحافتنا استبداد مبارك، كان الكثيرون يتهموننا بالانحياز ويروِّجون للأكذوبة الصفيقة عن الحياد والمهنية. كانوا يحاولون التستر على نفاقهم وضعفهم ومصالحهم باللغو عن الحياد والمهنية. وها نحن نواصل صيحة الحق فى وجه بُطلان الباطل، بينما تتكرر نفس النغمة الرخيصة عن انحيازنا. ونحن لا نفرِّق بين سلطة وأخرى إلا بالتزامها بالديمقراطية وتخلِّيها عن الهيمنة والتسلط والترفع عن استخدام القانون للتصفية السياسية واحترام الخصومة بعدم اتهام المعارضين بالخيانة والعمالة والعمل على احترام حرية الرأى والتعبير وردع أى رغبة سلطوية فى تكفير المختلفين معها والطعن فى دين المخالفين لها. والمؤسف أن ادعاء الحياد هو تعبير فاضح عن جهل المدّعين ليس فقط بمجريات ومقتضيات الصحافة فى العالم المعاصر، بل وجهلهم بتاريخ وجينات الصحافة فى مصر. فالثابت أن كل صحيفة فى الدنيا يجب أن تكون منحازة إلى الحقيقة والحرية، والصحيفة التى تُعِين أو تساعد أو تسكت على التضليل والاستبداد، لا يمكن أن تصبح بالأساس صحيفة. ثم المؤكد أن لكل صحف الدنيا توجّهًا ومنهجًا فكريًّا وسياسيًّا سواء يمينيًّا أو يساريًّا أو ليبراليًّا أو محافظًا. أما مصر فقد كانت الصحف هى التى أسَّست وأنشأت الأحزاب، لا العكس، وذلك حين كانت مصر تتعرف على العمل الوطنى والسياسى والحزبى، فقبل نحو عشرين عامًا من قيام حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، كانت قد صدرت صحيفة «المؤيد» التى أصبحت ناطقة باسمه (1889) برئاسة رئيس التحرير ثم رئيس الحزب الشيخ على يوسف، وقبل نحو ثمانى سنوات من تأسيس الحزب الوطنى كانت قد صدرت «اللواء» (يناير 1900)، برئاسة مصطفى كامل، وقبل نحو ستة أشهر من إعلان قيام حزب الأمة كانت قد صدرت صحيفته المسماة ب«الجريدة» (مارس 1907) برئاسة أحمد لطفى السيد. ويلاحظ الدكتور يونان لبيب رزق فى دراسته عن الجذور التاريخية للتجربة الحزبية، أن زعامات الأحزاب السياسية قد اشتهرت بدورها الصحفى قبل أن تشتهر بدورها الحزبى. ويضيف أن «اللواء» كانت أبرز أعمال مصطفى كامل وأكبرها أثرًا فى الشعب المصرى وفى الحركة الوطنية، حتى صار يُعرف بين معاصريه بأنه «صاحب اللواء»! ويشهد أن شهرة الشيخ على يوسف، باعتباره صاحب «المؤيد»، قد طغت كثيرًا على شهرته كرئيس حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، وحين ترك على يوسف الجريدة كانت شهادة وفاة للحزب الذى أخرجته من بين صفحاتها!
ويدلل الدكتور رزق بموقع أحمد لطفى السيد فى هيكل حزب الأمة، حيث كان الرابع، بعد الرئيس والوكيلين، وعلى الرغم من ذلك فقد تجاوز بشهرته الباشوات الثلاثة فى الحزب، وذلك من خلال رئاسته تحرير «الجريدة».
لقد كانت الصحافة أهم وسائل النضال الوطنى قبل ثورة يوليو، ولكن مع ملكية الدولة للصحف انسحب دور الصحيفة المناضل من أجل الحرية لصالح دورها الحاشد المؤيد الداعم المبرر المطنطن التعبوى لصالح النظام الحاكم، ولم تهتز قواعد الاستبداد فى عصر الرئيس السابق إلا مع الصحافة التى كسرت الخطوط الحمراء وأنزلت مبارك إلى مصاف الحكام، بعدما كان الفرعون الإله عند هؤلاء المنافقين لمرسى هذه الأيام تحت نفس الشعارات المملة عن الحياد والمهنية وغثّهم الناشف!
الصحافة مهنة الانحياز بامتياز. يمكن طبعًا أن تنحاز إلى الاستبداد السياسى والدينى واحتكار السلطة والدين. ويمكن فرض عين أن تنحاز إلى الحرية والحقيقة.
ولا توجد منطقة وسطى أبدًا مهما حاول المتخنثون سياسيًّا وصحفيًّا!