لا مشكلة عندى عندما أجد طلبة كلية الطب فى أسيوط من المنتمين إلى الدعوة السلفية وهم يخوضون معركة ضد اختلاط الأولاد بالبنات فى الكلية، هو الصعيد بتحفّظه وهذا هو الفهم السلفى الضيق والمتشدد والذى يرى الدنيا من ثقب صغير، هو العلاقة بين الرجل والمرأة، وهؤلاء أبناؤنا (وللغرابة فإنهم أزهريون) الذين وقعوا تحت وعظ شيوخهم السلفيين الذى خنقهم فى قفص من المعرفة لا يبذلون جهدا فى النظر خارجه أبدا، فالمدهش ليس فى إطلاق دعوة عدم الاختلاط التى نشروا بيانا بها فى طب أسيوط جامعة الأزهر، ولكن أن تأتى هذه الدعوة من طلبة طب فى حلقة علم، فهؤلاء على الأرجح لا يتأملون فى حكمة الله عز وجل، بإباحته المطلقة للاختلاط فى أقدس الشعائر وهى الحج وفى قلب الحرم المكى وحول أطهر بقاع الأرض، حيث الكعبة المشرفة، فإذا كان الله يحرّم الاختلاط فكيف أباحه هكذا فى تلك البقعة المقدسة وفى هذه الشعيرة التى لا تترك سنتيمترات بين الرجل والمرأة؟ ثم ألم يصل عِلم هؤلاء الطلبة (وقد درسوا فى الأزهر) أن الله قد أباح الاختلاط فى الحروب، حيث جيش المسلمين يضم رجالا ونساء؟ ونحن نقرأ فى السيرة العطرة موقفا فَذًّا للسيدة أم عمارة الأنصارية التى ثبتت بجانب النبى فى غزوة أُحد، بل وقاتلت بنفسها دفاعا عنه: «فخرجتُ فى أول النهار حتى انتهيتُ إلى رسول الله فقمت أباشر القتال وأذبُّ عنه بالسيف وأرمى عن القوس، ولما ولَّى الناس عن رسول الله أقبل ابن قمئة يقول دُلُّونى على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضتُ له فضربنى هذه الضربة فجعل النبى يصيح يا ابن أم عمارة أمَّك أمَّك… ولما دعا لها النبى ردت: ما أبالى ما أصابنى من الدنيا». وهى نفسها التى تحكى فى غزوة حُنين: «لما كان يومئذ والناس منهزمون فى كل وجه وأنا وأربع نسوة بيدى سيف صارم وأم سليم معها خنجر قد حَزَكَته على وسطها وأم سليط وأم الحارث (وكلهن أنصاريات)». الاختلاط إذن فى ساحة القتال يا أبنائى الطلبة، بل وحين ولّى الناس وانهزم الناس (وهم رجال بالمناسبة) يثبت فى المعارك، بل يحمى رسول الله نساء المسلمين، ولم يسأل أحد يومها عن الاختلاط لا فى الحرب ولا فى الضرب ولا فى الشهادة!
ولعل أبناءنا الطلبة يعرفون أنه لا النبى ولا الخلفاء الراشدون قد فصلوا بين الرجال والنساء فى الأسواق مثلا، وهى وقتها مجال العمل التجارى الحيوى، وفيها عمليات البيع والشراء والمقايضة والمفاصلة والمزايدة، وهى كلها تقتضى حوارات واتصالات لم يَنْه عنها النبى ولا أوقفها، ولم يصل إلينا أن هناك فصلا ومنعًا للاختلاط قد جرى حول آبار المياه، وكانت صلة يومية للرجال والنساء، أو فى أراضى الزراعة والفلاحة التى كان يشتغل عليها الكل.
من الصعب إذن أن نصدق ما ذهب إليه فقه التشدد، منصرفين عن الحياة اليومية التى أقرّها النبى والخلفاء الراشدون، وتنطق بها كتب السيرة والتاريخ.
فإذا كان الاختلاط فى الحج والحرب فهو أَوْلَى وأهم فى العلم. إن مشكلة طلبة الطب خصوصا عندما يرفضون الاختلاط، أنهم يقررون اعتزال مهنة الطب مبكرا، فكيف يا أبنائى الطلبة ستتخرجون فى كليتكم وتعملون فى المستشفيات، فهل تطالبون بالمرة بمنع الاختلاط بين المريضات والأطباء مثلا؟ وهل يمكن أن تجرى حضرتك جراحة بينما ترفض أن تكون هناك حكيمات وممرضات وطبيبات معك فى غرفة العمليات فى أثناء إجراء الجراحة مخافة الفتنة؟ هل سمع أحدكم عن فريق طبى ليس فيه نساء؟ وماذا لو جاءت إلى العيادة مريضة، هل ستكون طبيبا للرجال فقط فلا تجالسها ولا تحدثها ولا تعالجها؟!
عندما يصل بطلبة طب الحال إلى أن يتحدثوا عن زميلاتهم باعتبارهن فتنة (كل طالبات الكلية محجبات) فقد أفهمهم شيوخهم الفتنة خطأً، فالبيان الطيب الذى نشره الطلبة يستشهد بأحاديث، منها قال النبى صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدى فتنة أضرّ على الرجال من النساء» رواه البخارى… وقد تصور هؤلاء أن الفتنة مقصود منها الجنس، فكيف تفسَّر الفتنة إذن حينما يقول الله عزّ وجلّ «إنما أموالكم وأولادكم فتنة» التغابن:15. فهل أموالكم وأولادكم فتنة جنسية مثلا حتى نمنع الاختلاط بهما؟!
ويهزأ طلبة أسيوط من تاريخ الطب المصرى كله عندما يقولون فى بيانهم «وقد ابتُليت جامعات مصر بالاختلاط بين الشباب والفتيات، وكان هذا سببا فى حدوث مفاسد تدمى القلب من العلاقات المحرمة بين الطرفين بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وفساد للتعليم».
والمؤسف فعلا أن هؤلاء لا يمنحوننا أملا أن يصبحوا أطباء مهرة ومتفوقين، فكليات الطب حين لم تسمع عن تلك الدعاوى الشكلية المتطرفة كانت تقدم أطباء مصريين فى منتهى الكفاءة والمهارة والتميز وملؤوا الدنيا بعلمهم وفضلهم، بينما عندما ظهر طلبة الطب المشغولون بالاختلاط شفنا فعلا أطباء مثل عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وحلمى الجزار وسعيد عبد العظيم وياسر برهامى وحسن البرنس، فلم نسمع عن طبهم شيئا ولم يشتهر أحدهم بطبه إطلاقا، ولا كان لهم تميز مشهود فى مهنته العلمية ولا كفاءته الطبية، فأهلا بتلاميذهم ودعونا نشاطر الطب الأحزان على أطباء لم يختلطوا، لا بالبنات ولا بالعِلم!