أعتقد أن القيادي الإخواني عصام العريان ارتكب غلطة عمره عندما هاجم تيار اليسار ووصمه بتهم تدل على أنه لم يقرأ تاريخ مصر جيدا ، ولا يعرف معنى اليسار!!. فقد زعم أن فشل اليسار في مصر يرجع لتلقيه تمويلا خارجيا وخضوع للنفوذ الاجنبي واحتقاره للدين وتبنيه خطابا متعاليا..وبقدر ما سببته تصريحات العريان الغريبة والمفاجئة من صدمة لفصائل اليسار واليمين على السواء ، فإنها كشفت عن نوايا مبيتة لإحتكار السلطة وعدم السماح بتداولها عن طريق تشويه وتخوين الخصوم السياسيين ، وخاصة المنافسين المحتملين ، تمهيدا لتكفيرهم في موسم الإنتخابات. واللافت للنظر أن العريان وجه الى اليسار تهمتين كان الاخوان قد وجهوهما الى ثوار التحرير الذين أصروا على مواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها وتقديم قتلة الشهداء الى العدالة..حينئذ إتهم الإخوان الثوار بالعمل وفقا لأجندات أجنبية وتلقي تمويلات من الخارج!!...ويعلم العريان جيدا أنه لولا تضحيات غالية دفعها هؤلاء الثوار النبلاء ، ومعظمهم من فصائل اليسار ، لما قامت الثورة أو نجحت ، ولكان أغلب من يحكموننا الآن لا يزالون في غياهب المعتقلات. ومن سخريات القدر أن يكون العريان نفسه هو الذي يعلن في إجتماع للقوى الوطنية يوم 23يناير 2011 ،أن الإخوان لن يشاركوا في مظاهرات 25 يناير التي دعت اليها منظمات وأحزاب وحركات يسارية مع شباب ونشطاء الفيسبوك . أماحلفاء الإخوان من السلفيين فلم يكتفوا برفض التظاهر وإنما أفتى بعضهم بتحريم الخروج على الحاكم حتى ولو كان ظالما!!..والحقيقة التي يتعين أن يدركها سياسي وقيادي بحجم العريان هى أن اليسار هو الذي ينشد التغيير ويلهم ويقود الثورات ويصنع التقدم ..أما الجماعات والاحزاب اليمينية مثل جماعته فلا تحبذ التغيير. الثوري وإنما تميل للمحافظة على الاوضاع القائمة دائما وإذا دعت للإصلاح فعلى استحياء وبالتدريج. وهذا هو دأب الإخوان وديدنهم منذ نشأتهم كجماعة "دعوية سلفية" على يد المؤسس حسن البنا عام 1928..ولذلك لم يكن غريبا أن يتم تبريد الثورة وتدجينها على أيديهم بحيث تكون مطية طيعة تحملهم الى كرسي السلطة وكفى المؤمنين شر القتال. وتم ذلك بتنسيق وتعاون واضحين مع المجلس العسكري الذي لم يكن يهمه من الامر كله سوى التخلص من مشروع التوريث ولتذهب الثورة الى الجحيم..وحتى لا يتهمني البعض بالتحامل على الإخوان فإنني أحيل القراء لكتاب الباحث الاسلامي النابه المرحوم "حسام تمام" ، وهو بعنوان "الإخوان المسلمون. سنوات ما قبل الثورة"..الذي يرصد تعرض الجماعة للجمود ومقاومة الإصلاح إذ يقول في صفحة 27 " وجاءت الصياغة النهائية للبرنامج السياسي ( 2007) ...لتكشف ان القرار النهائي- عند المحك وفي المراحل المفصلية - هو بيد تيار التنظيم المحافظ، لقد كانت الضربة الاقوى والعلنية للتيار الاصلاحي داخل الجماعة بما يشبه عملية لنزع الشرعية عنه..".. ليس هذا فقط ، بل وضع حسام تمام يده على حقيقة جوهرية وكاشفة تؤكد تحول الإخوان الى أقصى اليمين الديني المتسم بالتحجر الفكري عندما أشار الى تعرض الجماعة لغزو السلفي الوهابية منذ سبعينيات القرن العشرين ، وهو ما أسماه تسلف الجماعة ، وكذلك تصعيد قيادات الارياف والاقاليم في مكتب الارشاد ،وهو ما اطلق عليه "ترييف" الجماعة..ويقول في صفحة 93 " ما يبدو لافتا في النهاية هو أن هناك تزامنا واضحا بين الركون الى المحافظة والإنغلاق وتغليب المكون الريفي في عضوية المؤسسات الاخوانية ، وبين تغليب المكون السلفي الموسوم بالمحافظة من حيث الاتجاه الايديولوجي العام داخل الحركة..".. ويضيف " تبدو تداعيات هذا الترييف في ضعف احترام فكرة اللوائح والقوانين المنظمة والمؤسسة للعلاقة داخل الجماعة ، كما برز على نحو واضح في الانتخابات الاخيرة لمكتب الارشاد((2008و2009)" هذه إذًاً شهادة باحث اسلامي متعاطف على التحول الذي اصاب جماعة الاخوان طوال العقود الأربعة الماضية وحولها إلى كيان يقف في اقصى يمين المسرح السياسي ولا يحترم حتى اللوائح والقوانين المنظمة للعلاقات الداخلية للتنظيم. وهذا التحول خلق تيارا براجماتيا موغلا في المحافظة لم يتورع عن التنسيق مع قيادات النظام المخلوع والتلميح لإمكانية القبول بالتوريث..وكذلك التفاوض مع عمر سليمان لإخلاء الميدان وإجهاض الثورة في الوقت الذي كان شباب وكوادر اليسار يواصلون نضالهم الدامي ضد النظام حتى سقط بعد تضحيات فادحة .
وإن كانت القوى الثورية واليسارية قد ارتكبت خطأً قاتلاً عندما تركت الميدان وسلمت الثورة أمانة للمجلس العسكري الذي أساء إدارة المرحلة الإنتقالية وإرتكب من الخطايا ما يرقى الى الجرائم السياسية الكبرى ( مثل السماح بتديين الاستفتاء وقيام أحزاب على اساس ديني وعدم مراقبة حجم الإنفاق على الدعاية الانتخابية ومصادر الاموال اُنفقت) ما أوصل تيار الإسلام السياسي الى السلطة شبه منفرد..وعندما تم للإخوان ما أرادوا ليكتفوا فقط ب"لحس" وعود بالمشاركة تعهدوا بها لقوى سياسية وثقت فيهم ، بل بدأوا حملة منسقة وممنهجة لأخونة مفاصل الدولة ثم جاءت مرحلة الإغتيال المعنوي لأي منافس محتمل مثل حمدين صباحىي واليسار بشكل عام. غير أن إتهامات العريان لليسار أدانت جماعته من حيث لا يدري إذ نسى انها غير مشروعة ولا يعرف أحد مصادر تمويلها واوجه انفاقها . وأن شرعية حكم الإخوان لن تتحقق إلا بتقنين وضع الجماعة..أما إتهام اليسار بإحتقار الدين فهذا تكفير مرفوض وخلط متعمد للدين بالسياسة ولو قرأ العريان تاريخ اليسار المصري جيد لأدرك أن نهضة مصر الثقافية الحديثة وقوتها الناعمة كانت من إبداع اليسار وأن أى "نهضة" مستقبلية لن تنجح إلا به..