كان الشاعر الغنائى مأمون الشناوى يصف عبد الحليم حافظ بأنه جريدة واسعة الانتشار توزَّع بالملايين، ولهذا كان يحرص على أن يمنحه كلمات أغانيه ليرددها الناس على حنجرته. نعم الأصوات مثل الجرائد، والجرائد مثل الأصوات، هناك جرائد تُشبه صوت عبد الحليم وتضرب أرقامًا قياسية فى التوزيع، ويلعب رئيس التحرير دور المايسترو فى ضبط حالة الهارمونية -الانسجام والتوافق- بين كل العازفين حتى لا تستمع إلى نغمة نشاز تجرح مشاعر القارئ.. وهكذا كانت جريدة «الأخبار» فى الفترة الوجيزة التى رأس تحريرها الكاتب الصحفى ياسر رزق، وكان قد انتقل من مجلة «الإذاعة والتليفزيون» بعد أن أحدث بها قفزة غير مسبوقة فى التوزيع ليعود إلى بيته «الأخبار» محققًا قفزة رقمية أخرى، فى وقت كانت فيها الجرائد والمجلات القومية تترنح فى سوق التوزيع، بعد أن هجرها القراء إلى الصحف الخاصة. كان ياسر واحدًا من الحالات الصارخة التى تم رصدها بالأرقام وتؤكد تخبط مجلس الشورى المالك القانونى للصحافة القومية، لم يعتقد أحد أن مجلس الشورى يُفرط فى صحفى كفء قادر على أن يصل إلى القارئ لمجرد أنه يسعى للحفاظ على استقلال الجريدة من منطلق مهنى.. الزمن تغير، ولا يقبل القارئ بعد الثورة منطق أن الجريدة أو المجلة القومية هى صوت الحاكم والمدافع عنه.. ما فعلته مجلة «أكتوبر» مؤخرًا بصورة محمد مرسى على غلافها الذى امتطى الحصان كأنه أبو زيد الهلالى، إعلام يرتدى الطربوش، بينما الشارع كاجوال.. الجريدة القومية ماذا تفعل بلا قراء. مجلس الشورى اختار الولاء قبل الموهبة، لأن أصحاب المواهب فى الأغلب -وليس الجميع- يشعرون أن مواهبهم تحميهم، ولهذا يتحركون مع الحكام فى مساحة أخرى تضمن لهم قدرًا من الاختلاف.. أتصور أن موهبة ياسر لعبت دورًا فى استبعاده.. هم يريدون أولا ولاءً مباشرًا لجماعة الإخوان!! بعد أسبوع واحد كان اسم ياسر قد انتقل من «الأخبار» إلى «المصرى اليوم» رئيسًا للتحرير، إنه المؤشر الجديد الذى لم يدركه مجلس الشورى، وهو أن الصحفى صاحب الموهبة صارت أمامه السوق مفتوحة.. «الشورى» لم يعد فى الميدان وحده، القطاع الخاص الصحفى أصبح يشكل رقمًا مؤثرًا فى المعادلة. الدنيا تغيرت، الدولة لم تتغير، فلا تزال تلعب بنفس الآليات.. قرأت حوارا لرئيس مجلس الشورى، وإذا لم تخنّى الذاكرة كان الحوار فى جريدة «الأخبار» لم يسأله المحرر مباشرة لماذا غير ياسر، ولكنه سأله كيف تغير صحفيًّا قفز بتوزيع جريدته؟ تلعثم فى الإجابة، ولم نفهم شيئًا سوى أن التوزيع ليس كل شىء، وأنا معه بالطبع لو كنا بصدد جريدة صفراء تبحث عن الإثارة بنشر الفضائح والنميمة، وهو بالقطع بعيد تمامًا عن منهج جريدة «الأخبار». التغيير سُنة الحياة يعترف بها البعض فقط عندما تكون لصالحهم -تلك الأيام نداولها بين الناس- عندما يأتى دوره فى المداولة يتداول وبعد ذلك لا مداولة. سوق الصحافة تقدم درسًا للجميع أن لا أحد من الممكن أن يحدد مصير جريدة أو يحجّم من وجود موهبة ولا عذر لأحد.. من يتنازل فى هذا الزمن لا يملك موهبة أخرى غير التنازل. يبدو أننى أتناول اليوم مسألة مهنية تخص فقط أهل الصحافة، ولكنى أراها تتجاوز ذلك إلى حال البلد، إنها حالة صحية جدًا سوف تضبط حال بلادى فى الكثير من مناحى الحياة. ياسر رزق لم يكن يومًا صحفيًّا معارضًا بالمعنى المباشر للكلمة، فهو لم يعلن موقفًا مباشرًا فى زمن مبارك ضد فساد مبارك، ولم يكتب مقالا مباشرًا ضد التوريث، ولكنه فى نفس الوقت لم يلعب دورًا فى الخضوع لمبارك أو التمهيد للتوريث، مثلما كان يفعل زملاؤه رؤساء التحرير القوميون، ولم تربطه صفقات مع رؤوس الفساد الذين حاولوا أن يشرعوا حبال الود مع الصحافة والإعلام القومى والخاص.. ياسر مهنى صاحب قلم وموهبة وليس مقاتلا. كان من الممكن للنظام الحالى أن يُبقى عليه رئيسًا لتحرير جريدة قومية، ويستفيد من موهبته لو أنهم يريدونها صحافة، ولكن من الواضح أنهم يبحثون عن صور أخرى لزمن مبارك والزمن تغير وهم ثابتون شامخون، كما كان يقول صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى السابق، فى آخر ظهور إعلامى له أثناء ثورة 25 يناير، قبل أن يذهب إلى طرة محافظا على ثباته وشموخه.