تذهب هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية إلى مصر في وقت تشهد فيه مصر تحولات وتطورات مصيرية، تشكل وتحدد مستقبلها ومصير اختياراتها على مدى الشهور الماضية، تذهب كلينتون إلى مصر التي انتخبت إسلاميا (إخوانيا) رئيسا لها، ومصر التي تواجه تحديات التحول الديمقراطي والاستقرار الاقتصادي. واشنطن وهى تراقب تطورات الأحداث الأخيرة في مصر، حرصت على توخي الحذر وإبداء القلق، كما حرصت على إظهار وتأكيد هذا الحذر وهذا القلق، والأهم عدم الاندفاع في إصدار أحكام أو التكهن بما قد يحدث أو لا يحدث، ومن هنا جاء حرص هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريحاتها الأخيرة في هانوى بفيتنام قبل أيام وهى تقول إنها «تدرك جيدا أن التغيير في مصر صعب ولن يحدث بسرعة، وإن الأيام القليلة الماضية أكدت أن هناك كثيرا من العمل أمام مصر للإبقاء على التحول والانتقال إلى الديمقراطية في مساره».
ولم يتردد أغلب المراقبين في القول بأن الزيارة ولقاء الرئيس المصري المنتخَب محمد مرسي ومسؤولين آخرين وممثلين عن المجتمع المدني تعكس صفحة جديدة في علاقة ممتدة حدثت فيها تغييرات كثيرة منذ فبراير 2011. وحسب توصيفهم: انتهى زمن الحاكم الواحد والمركز الوحيد المطلق لاتخاذ القرار، وقال الشعب المصري كلمته ومطالبه، وله اختياراته، وواشنطن تريد وتسعى للعمل مع الواقع الجديد في مصر، ولذلك قالت كلينتون في تصريحاتها «إن الولاياتالمتحدة كانت شريكا لمصر منذ فترة طويلة، ونحن نريد مواصلة العمل معها من أجل تعزيز الاستقرار في المنطقة ومنع نشوب صراعات ومحاولة حماية مصالحنا المتبادلة في المنطقة.. وإن العلاقات المصرية الأمريكية مهمة بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة، كما أنها مهمة أيضا للدول المجاورة لمصر».
وحتى لا يتم خلط الأوراق والمواقف (ملمح أساسي في ملف العلاقات الأمريكية المصرية) حرصت وزيرة الخارجية الأمريكية على القول: «من الأهمية أن يتم التشديد بأن الديمقراطية ليست فقط إجراء لانتخابات، بل تتعلق بإقامة حوار سياسي نابض بالحياة وشامل للجميع، والاستماع إلى المجتمع المدني، ووجود علاقات طيبة بين المسؤولين المدنيين والعسكريين، يعمل كل منهما من خلالها على خدمة مصالح المواطنين، وأن الديمقراطية حقا تعني تمكين المواطنين لتحديد المسار الذي تتحرك فيه بلادهم».
منذ أيام كان ويليام بيرنز نائب وزيرة الخارجية في القاهرة التقى بالرئيس مرسي وسلمه رسالة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بيرنز لعب ويلعب دورا هاما ورئيسيا في التعامل مع الشأن المصري الجديد.. والتواصل مع الإخوان، ويليام بيرنز ليس غريبا على المنطقة، إذ كان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ما بين عامي 2001 و2005 ويجيد الروسية والعربية والفرنسية، وله مؤلف صادر عام 1985 بعنوان «المساعدات الاقتصادية وسياسة أمريكا تجاه مصر (1955 – 1981)».
ولعل أبرز تصريح تم الاهتمام به عقب لقاء بيرنز بالرئيس مرسي هو القول إن الرئيس الأمريكي في رسالته وجه الدعوة إلى الرئيس المصري للحضور إلى أمريكا للقائه، وبما أن المسؤول الأمريكي (بيرنز) لم يعلن ذلك بنفسه ولم يشر إليه في البيان الصادر عن الخارجية، وإنما بثته وتناقلته في البداية وسائل الإعلام المصرية، ومن ثم العالمية والأمريكية فكان من الطبيعي أن الأمر يتم طرحه على جاي كارني المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، فجاءت إجابته صريحة ومحددة، بأنه كما جرت العادة لا يتم الكشف عن مضمون رسائل الرئيس لقادة دول آخرين، وأيضا لم يتم بعد تحديد موعد لأي لقاء مع الرئيس المصري سواء في واشنطن أو في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكما هى العادة في مثل هذه المواقف المحرجة يتم تفادي التكذيب منعا لإحراج الطرف الآخر، وفي الوقت نفسه لا يتم تأكيد ما أعلن ونشر من جانب الطرف إياه.
وإذا تمت الزيارة في سبتمبر المقبل، فسطور جديدة سوف تكتب وتضاف لتاريخ رؤساء مصر وزياراتهم لأمريكا، والبداية مع الرئيس جمال عبد الناصر وزيارته لنيويورك في 26 سبتمبر 1960 لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد اجتمع الرئيس المصري بالرئيس الأمريكي أيزنهاور، وحسب تسجيلات مكتب المؤرخ الخاص بالخارجية الأمريكية فإنها كانت الزيارة الأولى والأخيرة للرئيس عبد الناصر، أما الرئيس أنور السادات فكانت أول زيارة له في الفترة الممتدة ما بين 27 أكتوبر و5 نوفمبر 1975، خلال هذه الزيارة الرسمية التقى السادات بالرئيس جيرالد فورد في جاكسونفيل بولاية فلوريدا يوم 2 نوفمبر، كما ألقى خطابا أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونجرس يوم 5 نوفمبر، وزار خلال وجوده في الولاياتالمتحدة كلا من ويليامزبرج ومدينة نيويورك وشيكاجو وهيوستن، ويذكر أنه بعدها زار السادات أمريكا ست مرات آخرها كانت في الفترة ما بين 4 و9 أغسطس 1981، أما أول زيارة للرئيس حسني مبارك فكانت في الفترة ما بين 2 و5 فبراير عام 1982. بعدها زار مبارك أمريكا 22 مرة آخرها فى سبتمبر 2010.
وتتوالى التصريحات والتعليقات من واشنطن وأهلها من المراقبين حول المتوقع والمنتظر من رئيس مصر الجديد، وبالطبع تتراوح المواقف بين الترحيب بما يقال ويعلن من القاهرة من جهة، والتحذير من الاندفاع إلى التفاؤل أو الإفراط فيه أو إصدار الأحكام قبل اتضاح الرؤية من جهة أخرى، وما هو الشائع من القول في ظروف مماثلة بأن ما يتم متابعته هو «الأفعال لا الأقوال».
وهيلاري كلينتون الذاهبة إلى مصر ترى ماذا ستحمل معها من واشنطن إلى القاهرة؟ كما أن هيلاري الذاهبة إلى إسرائيل بعد زيارتها لمصر، ماذا ستحمل معها من القاهرة؟ الكاتب السياسي البارز ديفيد أجناشيوس المتخصص في الشؤون الدولية وعلاقة واشنطن بها كتب أخيرا في «واشنطن بوست» عن توابع الربيع العربي «أن ما سمعه من مسؤولين كبار في إسرائيل هو أن أغلب هؤلاء المسؤولين يعتقدون أن العلاقات مع العرب ستزداد سوءا تدريجيا وربما لعقود قادمة، قبل أن تمد الديمقراطية جذورها بالفعل، ويكون الشعب العربي مستعدا لقبول الدولة اليهودية. وأن التحدي بالنسبة إلى إسرائيل هو كيف تتفادى إشعال الرأى العام العربى (عنصر جديد هام) بينما تقوم بحماية الدولة»، وأشار الكاتب الأمريكي إلى وجود قلق عميق في إسرائيل تجاه الأوضاع الأمنية في سيناء، وأن الاختبار الحقيقي سيكون غزة حيث قيادة حماس الحليفة المقربة من الإخوان، ويرى الكاتب أن إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي يعد من المتفائلين، ويعتقد باراك أن مصر والجيران الآخرين سيتحركون للأمام نحو نسخة جديدة من «النموذج التركي» للديمقراطية الإسلامية، التي قد تكون طيبة تجاه إسرائيل وتكون أيضا براجماتية، وأن إسرائيل تستطيع ببساطة أن تنتظر حتى تمر العاصفة، أما الرؤية الأكثر القتامة فيتبناها بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين يعرفون العالم العربي جيدا (حسب وصفهم)، وهم يعتقدون أنه خلال السنوات القليلة القادمة على الأقل فإن مرسي وقيادات إخوانية أخرى سيحاولون تعضيد سلطاتهم وقد يبدون أنهم متعاونون، ولكن في صميم أيديولوجية الإخوان يوجد رفض لإسرائيل وأي تنازلات مع إسرائيل ستكون تحركات تكتيكية أكثر من كونها سلاما حقيقيا، ويرى هؤلاء أن وجود إسرائيل ليس بالأمر السهل وقد صار أكثر تعقيدا ولا يمكن التوقع بشأنه، «نحن ما زلنا داخل التغيير التاريخي الكبير»، كما قال مسؤول إسرائيلي كبير «ولا نعرف إلى أين سيأخذنا؟».
وما دمنا نتابع المشهد من خلال منظور «عيون متجهة نحو مصر»، فإن قيادات وأعضاء الكونجرس منذ إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية وحتى قبلها كانوا على حرص أن يبدوا حذرهم وقلقهم تجاه القيادة الجديدة في مصر، والأمر لا يخص فقط العلاقة مع إسرائيل واتفاقية السلام (كما يريد أن يصورها البعض في مصر)، بل يضم مصر المستقبل ومصر الغد والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي فيها، وبالتالي الحياة السياسية وقضايا حقوق الإنسان ومنها ملف المرأة والأقباط وحرية التعبير والإبداع، ويذكر أن البيانات الصادرة عن بعض رجال الكونجرس تعكس وتجسد هذا القلق والانزعاج والاهتمام، كما أن بعض مشروعات قرارات آخذة في التحرك فى آليات الإقرار والاعتماد من مجلسي الكونجرس (النواب والشيوخ)، في ما يخص المعونة العسكرية وشفافية ميزانية الدفاع والتحرك إلى الديمقراطية وحماية حقوق المرأة وحقوق الأقباط كمواطنين مصريين، مايكل بوزنر مساعد وزيرة الخارجية للديمقراطية وحقوق الإنسان، حضر المؤتمر السنوي الذي عقد في الكونجرس أخيرا للتضامن مع الأقباط، وخلال اللقاء أبدى تفهمه وتفهم الإدارة هواجس الأقباط، ونبه الحاضرين إلى أن الرئيس أوباما كان حريصا في البيان الصادر من البيت الأبيض عقب إعلان النتيجة أن يتضمن إشارة إلى الأقباط، كما قال بوزنر ردا على ما أثير من تعاطف للإدارة مع الإخوان، بأن الحوار قائم معهم ليس لأننا نوافقهم على ما يقولونه، بل لأنهم جزء من النظام الآن، وأن هذا الحوار ليس سهلا وسلسا كما يظن البعض.. بل شاق، علاقة واشنطن مع الإخوان ستظل موضع تساؤل دائم وقلق مستمر، خصوصا أن لا أحد يريد تكرار ما حدث مع مبارك و«شيكات على بياض»، والسكوت على ما يفعله داخليا، ما دام أنه ملتزم بتعهداته الخارجية ودوره الإقليمي، هذا الزمن ولّى، وبالتالي يجب السعى لبدء صفحة جديدة وعدم إضاعة الفرصة المتاحة حاليا من أجل إيجاد صياغة أفضل للعلاقات ما بين مصر وأمريكا، تقوم على الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة، هذا ما أشار إليه أكثر من مراقب للشأن المصري (ومنهم ميشيل دن من مجلس الأطلسي وجاكسون ديل من «واشنطن بوست»)، إن الأنظار متجهة إلى مصر، لما لمصر من مكانة وتأثير ولتجربتها الحالية من تبعات على المنطقة.