إحساس الناس دائما ما يصدق.. وهكذا جاءت الصدمة من هذا الحكم الذى يحتوى منطوقه على قدر لا يُنكَر من الخداع. هذا الحكم سوف يشكل ببساطة ملامح مصر القادمة. لو قرأته طبقا لنصف الكوب الملآن نجد أن مبارك والعادلى يواجهان حكما بالسجن المؤبد.. ولو أطلت النظر إلى أعلى فسوف ترى نصفه الفارغ، فنكتشف أن كل مساعدى العادلى قد حصلوا على البراءة، وهذا يعنى أن جولة النقض فى طريقها لكى تقطع خطوة فى تبرئة مبارك والعادلى.. نعيد النظر إلى نصف الكوب الملآن لنجد أن مبارك فى طريقه إلى سجن طرة بينما النصف الفارغ يؤكد أننا بصدد التمهيد بالضرورة لتبرئة القاتل وأبنائه ومساعديه.. هل القاضى هو الذى يحكم أم أن ضميره يستند إلى ما فى حوزته من أدلة؟
مَن الذى أفسد الأدلة الجنائية؟ مَن المسؤول عن عدم تمكين القضاء من العثور على كل الأوراق والمستندات؟ من تلاعب بكل ذلك لا يزال حرا طليقا ولم يوجه إليه اتهام.
الحكم الذى أصدره المستشار أحمد رفعت سبقه بمقدمة عظيمة عن الثورة وعن عصور الظلام التى استمرت 30 عاما وعن الرجل الذى ترك الشعب بلا أدنى حماية فى المأكل والمشرب والمسكن والأمن والأمان.. الثورة التى كانت تمثل الفجر العظيم الذى أضاء ربوع مصر.. ثم جاء الحكم ليمهد الطريق لإبراء ساحة الرجل الذى فعل كل ذلك.
مَن قتل المتظاهرين؟ كل مساعدى العادلى خارج القفص خلال ساعات ولن تطولهم يد القانون. الحكم المؤبد ضد مبارك والعادلى من الممكن أن يسقط فى النقض بسهولة، ولن يتبقى سوى تلك المقدمة العظيمة عن الثورة التى قالها القاضى والتى حفلت بعشرات من الأخطاء اللغوية، وهى حالة من الممكن أن «نعدّيها» مثلا لو كانت النيابة هى التى توجه اتهاما، أو قد نتسامح معها لو أن أحد المحامين هو الذى يعلنها، ولكن ما حدث أن القاضى هو الذى فعلها رغم أنه يعلم أن الملايين تستمع إليه وهى تنتظر صوت العدل، ومن شروط العدل صحة منطوق الكلمات شكلا وتشكيلا.
هل تنفصل انتخابات الرئاسة القادمة عن مسار محاكمة مبارك؟ الحقيقة هى أن الحكم الأخير سوف يغير كثيرا من المعادلات السابقة.. يجب أن نتأكد أن ما شاهدناه أمس كان هو الفصل الأول، وتبقى الأدلة والأسانيد وشهادات الكبار فى البلد الذين لا يمكن إلا أن نرى أياديهم فى كل ما تشهده مصر الآن. الكل استمع إلى المشير قبل بضعة أشهر، وهو يؤكد فى حديث له على «يوتيوب» أنه لم يتلقَّ أمرا من مبارك بالضرب، وعمر سليمان كان هو صوت مبارك، وحتى اللحظات الأخيرة، ولا يمكن أن تشك لحظة واحدة أنه كان صوته فى أثناء الإدلاء بشهادته!
الناس لديهم إحساس بأن أحكام القضاء ليست بعيدة عما يريده النظام العسكرى الحاكم، ولو تتبعت كيف وصل كل هؤلاء إلى المثول أمام القانون فسوف تجد أن الشعب هو الذى أصدر القرار وأن المجلس العسكرى كان يتلكأ قبل اتخاذ كل خطوة.. محاكمة العادلى وأبناء مبارك وصفوت وزكريا وسرور وغيرهم ثم مبارك، كل واحدة من هذه الخطوات استغرقت زمنا، لأن المجلس العسكرى لم يكن يعنيه سوى حماية مبارك والعائلة ومساعديه.. الزمن الضائع كان وحده كافيا لكى يتم تستيف الأوراق ومحو بعضها لنصبح أمام جريمة، لدينا جثة وطلقة ومسدس، والفاعل يلعب فى مناخيره.
القاتل يبدو سعيدا، فلقد نجحت حتى الآن الخطة. براءة لمساعدى العادلى أى أنهم لم يتلقوا الأوامر من أحد، فلم يقل واحد منهم إن العادلى قد أصدر أوامره بضرب المتظاهرين، والعادلى قال إن مبارك لم يصدر قرارا بالضرب، والمؤكد أن شهادتى كل من سليمان وطنطاوى كانتا تبرِّئان ساحة مبارك!
كان أول نداء للثورة هو «الشعب يريد تغيير النظام»، بينما المحامون فى القاعة قالوا «الشعب يريد تطهير القضاء»، ولو كان لى أن أقول ما أعتقد أن الشعب يريده فسوف أقول لكم إن الشعب يريد محاكمة مَن حجب أدلة الاتهام عن المحكمة، مَن تَعمّد أن يتلكأ عن اتخاذ الخطوات لتحقيق العدالة.. نعم لا نستبعد أن نرى بعد بضعة أسابيع مبارك حرا طليقا لعدم كفاية الأدلة، ولن يكتفى فى هذه الحالة بأن يلعب فى مناخيره، ولكنه سيُخرِج لنا لسانه!