شيخ المنطقة الأزهرية بالغربية يترأس وفداً أزهرياً للعزاء في وكيل مطرانية طنطا| صور    تعاون «مصرى - إيطالى» فى «إدارة المخلفات الصلبة»    «المالية»: 20 مليون جنيه «فكة» لتلبية احتياجات المواطنين    إلغاء إجازات البيطريين وجاهزية 33 مجزر لاستقبال الأضاحي بالمجان في أسيوط    40 جنيهًا.. ارتفاع في أسعار الذهب المحلية خلال أسبوع    إقبال على شوادر الأضاحي ومحال الجزارة بالسيدة زينب ليلة عيد الأضحى (صور)    إعلام عبرى: صافرات الإنذار تدوى بمستوطنات فى شمال إسرائيل    93 دولة تدعم المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة إسرائيل    الاحتلال يكثّف عدوانه على غزة    أبو عبيدة يتوعد إسرائيل بعد العملية المركبة في رفح: لدينا المزيد    ملخص وأهداف مباراة إيطاليا ضد ألبانيا 2-1 في يورو 2024    أنا زعلان وبعتذر لجمهور الزمالك، عامر حسين يرد على واقعة عبد الله السعيد (فيديو)    ميكالي يطالب اتحاد الكرة بحسم موقف الثلاثي الكبار بقائمة أولمبياد باريس    عاجل.. عرض خليجي برقم لا يُصدق لضم إمام عاشور وهذا رد فعل الأهلي    الدوري الممتاز، السيد منير حكما لمباراة المقاولون العرب وطلائع الجيش    عاجل.. الزمالك يحسم الجدل بشأن إمكانية رحيل حمزة المثلوثي إلى الترجي التونسي    ضيوف الرحمن يبدأون في رمي جمرة العقبة الكبرى (فيديو)    هربا من الحر، زحام كبير من المصطافين وأهالي مطروح على الكورنيش في ليلة العيد (صور)    منع أي حاج من خارج بعثة القرعة بالتواجد داخل المخيمات بمشعر منى    الأرصاد: انكسار الموجة الحارة الأحد أول أيام عيد الأضحى المبارك    هربًا من ارتفاع الحرارة.. غرق شابين في ترعة بالدقهلية    أماكن ساحات صلاة عيد الأضحى 2024 في مكة.. تعرف على موعدها    أخبار الحوادث، تفاصيل جديدة في إلقاء زوج "سبرتاية" مشتعلة على زوجته، القبض على مسجل خطر تعدى على طالبة وصديقها بقطعة زجاج    ريهام سعيد تكشف مفاجأة لأول مرة: محمد هنيدي تقدم للزواج مني (فيديو)    اتغير بعد واقعة الصفع، عمرو دياب يلبي طلب معجبة طلبت "سيلفي" بحفله في لبنان (فيديو)    أنغام تحيي أضخم حفلات عيد الأضحى بالكويت.. وتوجه تهنئة للجمهور    تزامنا مع عيد الأضحى.. بهاء سلطان يطرح أغنية «تنزل فين»    رئيس وزراء لبنان يستقبل عمرو دياب قبل حفلُه في بيروت    فنانون يؤدون فريضة الحج هذا العام.. صور وفيديوهات من الأراضي المقدسة    من السنة النبوية.. صيغة تكبيرات عيد الأضحى المبارك 2024 الصحيحة الكاملة وكيفية أدائها    أحمد كريمة: الحج يُرَسخ فينا مكارم الأخلاق ولا داعي للتدافع أمام المزارات المقدسة    للكشف والعلاج مجانا.. عيادة طبية متنقلة للتأمين الطبي بميدان الساعة في دمياط    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيطاليا وإسبانيا يفوزان في يورو 2024 وجوميز يرفض مقترح بشأن نداي    عميد «بيطرى دمنهور» يقدم نصائح لذبح الأضحى بطريقة آمنة فى العيد    بمناسبة العيد والعيدية.. أجواء احتفالية وطقوس روحانية بحي السيدة زينب    رئيسة الوزراء الإيطالية: إسرائيل وقعت في فخ «حماس»    إطلاق "شعارات بانديرا النازية" في مؤتمر سويسرا حول أوكرانيا    يونيسف: الوضع في غزة يزداد سوءًا للأطفال يومًا بعد يوم    حلو الكلام.. لم أعثر على صاحبْ!    أيمن الرقب: عيد الأضحى فى قطاع غزة يقتصر على الشعائر الدينية فقط بدون أضاحى    الإسباجتي لا ينكسر    يورو 2024 – كييزا: استرجعت نهائي البطولة الماضية.. والهدف المبكر صدمنا    مكروهات الذبح للمضحي وآداب الأضحية.. الإفتاء توضح    لكل أب وابن فى عيد الأضحى المبارك. والرسالة الأعظم    أمين الإفتاء: الحجاج ذهبوا إلى المزدلفة ويتجهزون لباقي أركان الحج    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. السعودية: اكتمال المرحلة الأولى من خطط أمن الحج بنجاح.. بايدن وترامب يتفقان على قواعد المناظرة الأولى.. ونائبة الرئيس الأمريكى: ندعم خطط زيلينسكى لإنهاء الحرب    فحص 1374 مواطنا ضمن قافلة طبية بقرية جمصة غرب في دمياط    وانكشف الإدعاء على الرئيس مرسي .. "السيسي" يمنح الإمارات حق امتياز قناة السويس ل 30 عاما    رئيس الوزراء يهنئ الشعب المصرى بعيد الأضحى المبارك    وزيرة الهجرة: تفوق الطلبة المصريين في الكويت هو امتداد حقيقي لنجاحات أبناء مصر بمختلف دول العالم    خريطة ساحات صلاة عيد الأضحى في القاهرة والجيزة | فيديو    10 نصائح من معهد التغذية لتجنب عسر الهضم في عيد الأضحي    وفد وزارة العمل يشارك في الجلسة الختامية لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    محافظ أسوان يتابع تقديم الخدمات الصحية والعلاجية ل821 مواطنًا بإدفو    مجدي بدران يقدم 10 نصائح لتجنب الشعور بالإرهاق في الحر    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج إعداد معلمي رياض الأطفال ب«تربية القاهرة للطفولة المبكرة»    أبرز تصريحات وزير المالية على قانون الاعتماد الإضافي للموازنة الجارية    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يختتم فعالياته بإعلان أعضاء المجلس التنفيذي الجُدد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.عماد عبد اللطيف يحلل خطب السادات فى كتابه الجديد
نشر في الدستور الأصلي يوم 26 - 01 - 2012

الإنسان هو الحيوان الناطق، لكن الإنسان أيضًا هو الحيوان السياسي، هكذا حدد أرسطو أهم ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات. فاللغة التي تكشف عن ملكات العقل والتفكير، والسياسة التي تنتُج عن ميل الإنسان الغريزي للعيش في جماعات منظمة؛ هما السمتان اللتان تجعلان من الإنسان إنسانًا ومن البشر بشرًا. واللغة والسياسة كسمتين للبشر تجمعهما من الروابط والعلاقات أكبر مما يفصلهما. فقد كانت اللغة دومًا الأداة المحورية للسياسة وأهم تجلياتها. فالسياسة لا يمكن أن توجد بدون التواصل السياسي الذي يعتمد بشكل أساس على اللغة، وبحسب موري إيدلمان فإن السياسة هي مسألة كلمات إلى حد كبير.
ربما كان ترسخ ارتباط السياسة باللغة وراء المفهوم الشعبي الشائع لها. فالمصريون حين يستخدمون كلمة السياسة في تعبيرات مثل "خُذه بالسياسة"، أو "سايسه"، إنما يعنون استخدام سبل وأدوات لغوية بلاغية محددة؛ مثل بلاغة التحايل والتلطيفات والأسلوب غير المباشر والكناية والتمثيل والتورية..إلخ. ومن هنا فإنه لا يمكن تصور وجود سياسة بدون لغة، حتى الحرب -التي يعتبرها البعض امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى- لا تخلو من الكلام الذي يؤسس عماد الدعاية الحربية، التي قد تكون أكثر تأثيرًا من العتاد العسكري، وغالبا ما تكون اللغة هي طليعة الجيوش.
إن الوظائف السياسية التي تقوم بها اللغة لا يمكن حصرها. فهي أداة مهمة في الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها أو مقاومتها. وهي تساهم في تأسيس شرعية نظام ما أو جماعة سياسية ما وحجبها عن نظام أو جماعة أخرى. كما تمثل الأداة الأهم في معظم الأنشطة السياسية مثل الدعاية السياسية والتفاوض السياسي والمناظرات السياسية والخطابة السياسية. وغالبًا ما تكون تجليات التحالف السياسي أو الصراع السياسي لغوية بالأساس. وعلى مدار تاريخ البشرية كانت اللغة هي الأداة الرئيسية للعمل السياسي، فبواسطة اللغة كان -وما يزال- يُنجز معظم النشاط السياسي.
لقد شهدت العقود الماضية إعادة الاعتبار لدور اللغة في السياسة. فقد كان التركيز في الماضي يتوجه إلى الفعل السياسي الذي كان يوضع في مقابل الكلام السياسي. وكان يتم التمييز بينهما على أساس أن الأول أكثر صدقًا من الثاني. وتجلى هذا التمييز في التعبير الشائع الذي يقول "الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال". لكن هذه النظرة تغيرت كلية في إطار المنعطف اللغوي الذي شهده القرن العشرين. وأصبح الإدراك السائد أن الأفعال السياسية تُبنى بواسطة الأقوال السياسية أو حولها. وبدون اللغة ما كان يمكن أن توجد السياسة بالمعنى الذي يفهمه بها البشر.
على الرغم من التأثير الهائل الذي تمارسه اللغة في حقل السياسة، فإن اهتمام الباحثين العرب بدراسة لغة السياسة العربية ما زال محدودًا. وربما يرجع ذلك من ناحية إلى أن المتخصصين في الدراسات اللغوية العربية لم يُعنوا كما ينبغي بلغة السياسة، ومن ناحية أخرى إلى أن دارسي العلوم السياسية العرب لم يألفوا بعد استخدام المقاربات اللغوية في دراسة السياسة العربية. وما تزال الحاجة كبيرة إلى إعادة تقدير الدور الذي تقوم به اللغة في صياغة السياسة العربية، وهذا الكتاب ليس إلا خطوة في طريق الكشف عن استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي العالم العربي المعاصر، خاصة الدور الذي تلعبه البلاغة الأبوية والدينية.
يحاول هذا الكتاب الإجابة عن أسئلة متنوعة منها: هل حدثت تطورات جذرية في الخطابة السياسية في مصر منذ أوائل القرن العشرين حتى أوائل القرن الحادي والعشرين؟ وما ملامح هذا التطور؟ وما تأثيره وتجلياته على خطاب السادات؟ كيف يؤلَّف الخطاب السياسي؟ وما طقوس كتابته، والعمليات التي تنطوي عليها؟ وما أشكال الجدل الذي كان يوجد بين أفكار كتاب الخطب ومعتقداتهم وأفكار السياسي ومعتقداته؟ وما تأثيرهم على أسلوبه؟ ما الذي يفعله السياسيون لكي تصبح خطبهم أكثر تأثيرًا في الجماهير التي تسمعها؟ إلى أي حد يمكن للخطابة السياسية أن تكون أداة للتأثير على الجماهير؟ ما استراتيجيات الإقناع والتأثير التي تستخدمها للسيطرة على الجماهير؟ وكيف يمكن دعم أو إعادة توجيه أو مقاومة التأثير الذي تقوم به الخطب التلاعبية أو المخادعة؟ ما طبيعة البلاغة السياسية للسادات؟ وما دور الدين في تشكيلها؟ وكيف تستخدم النصوص الدينية كأدوات إقناع وتأثير في خطبه السياسية؟ كيف استخدم السادات لغة القرية ضد معارضيه من المثقفين ورجال الأحزاب؟ وما الدور الذي لعبته خطب السادات في الحياة السياسية المصرية والعربية في تلك الفترة؟ هل تقوم خطب السادات السياسية بإنجاز أفعال سياسية؟ وكيف؟ هل يمكن بواسطة التحليل اللغوي والبلاغي المفصَّل الكشف عن ما تفعله الخطب السياسية وتفسير كيف تفعله وتعزيزه أو مقاومته؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ هذه الأسئلة وغيرها سوف تكون محور فصول هذا الكتاب.
ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول وخاتمة تتضمن بعض نتائج الكتاب وتوصياته وبعض الأفكار الخاصة ببحوث مستقبلية. الفصل الأول يحكي جزءًا من تاريخ الخطابة السياسية في مصر في القرن العشرين، ويقارن بين حال الخطابة في مصر الملكية بحالها في مصر الجمهورية، ويتناول بعض أشكال العلاقة بين الخطابة والحياة السياسية.
أما الفصل الثاني فيتتبع علاقة السادات بمهنة الكتابة ومهاراته في التواصل مع الجماهير، ثم يناقش مسألة منْ الذي كان يكتب خطب السادات، وطبيعة التأثير الذي مارسه هؤلاء الكتاب على خطابه بخاصة وعلى الحياة السياسية المصرية بعامة. كما يتتبع أوجه الصراع التي نشأت بين آراء السادات ومواقفه وآراء كتاب خطبه ومواقفهم، وكيف ألقى هذا الصراع بظلاله على خطابته السياسية. بالإضافة إلى المقارنة بين الأساليب المختلفة لمن كتبوا خطب السادات من ناحية، وبين أساليبهم في الكتابة وأسلوب السادات في الخطابة. وينتهي الفصل بدراسة تفصيلية للفرق بين خطب السادات المرتجلة والمعدة سلفا، وارتباطها باستقلاله بالسلطة أو الصراع عليها، واستخلاص أهم الوظائف الخطب السياسية في عصر السادات على المستوى المحلي والعالمي.
يتناول الفصل الثالث المفاهيم الأساسية لبلاغة السادات، والقضايا التي تطرحها خطبه. ويناقش بالتفصيل ظواهر أداء السادات لخطبه، والفرق بين نص الخطبة المكتوب، والخطبة بعد إلقائها. كما يقدم مراجعة نقدية للدراسات السابقة حول خطب السادات، وتفسيرًا لندرة هذه الدراسات. وأخيرا، يتم تقديم عرض موجز لمناهج دراسة الخطابة السياسية، مع التركيز على مقاربتي التحليل النقدي للخطاب وبلاغة الجمهور. وهما مقاربتان تشتركان في توجههما النقدي؛ أي في سعيهما لتعرية ومقاومة الخطابات السياسية التي تمارس هيمنة وسيطرة على جمهورها، من خلال الكشف عن دور اللغة والبلاغة في تحقيق هذه السيطرة والهيمنة.
السياسة بدون استعارات -كما يقول سيث ثمبسون- تشبه سمكةً بدون ماء. ويتناول الفصل الرابع من هذا الكتاب بعض الاستعارات المفهومية في خطب السادات. بدأ الفصل بتأصيل نظري موجز لظاهرة الاستعارات السياسية؛ تناول وظائفها؛ وبعض النظريات المفسرة لكيفية عملها، وطرق دراستها في الخطب السياسية العربية. وتبع ذلك جزءان تحليليان تضمن الأول دراسة تجليات استعارة "العائلة المصرية" ووظائفها في مدونة ضخمة من خطب السادات. وتضمن الثاني تحليلا لأهم المفاهيم الاستعارية التي استُخدمت في تشكيل صورة "مصر قبل الثورة" كما تجلت في خطب السادات. تتبع تجليات وملامح استعارة مفهومية كبرى مزجت بين مفهوم عالم جاهلية ما قبل الإسلام في علاقته بالإسلام ومفهوم عالم ما قبل ثورة يوليو في علاقته بثورة يوليو، إضافة إلى استعارات أخرى أقل محورية مثل أحزاب ما قبل الثورة وحوش مفترسة وأشباح كريهة، مركزًا على دراسة كيفية تشكُّل هذه الاستعارات ووظائفها وسياقات إنتاجها وتلقيها.
على مدار قرون طويلة استُخدم الدين في العالم العربي وسيلة للوصول إلى الحكم وإضفاء الشرعية عليه والاحتفاظ به. وفي فترات ممتدة لم يكن يوجد فصل بين رجل الدين ورجل السياسة؛ خاصة بعد أن تبنى الخلفاء العباسيون فكرة أنهم خلفاء الله في الأرض. لكن مع دخول بعض الدول العربية؛ عصر التحديث في أوائل القرن التاسع عشر بدأ حدوث تراجع في ارتباط الدولة بالدين. مع تولي السادات مقاليد الحكم أحدث تحولاً كبيرًا في العلاقة بين الدين والدولة في مصر. صاحبته عودة إلى استخدام اللغة الدينية في لغة السياسة المصرية؛ خاصة الخطب الرئاسية. ونتج عن ذلك وجود طابع ديني مهيمن على خطب السادات. ويدرس الفصل الخامس من الكتاب ظاهرة التضفير بين الخطابين السياسي والديني في خطب السادات مُركزًا على خطبتين الأولى هي خطبته إثر انتفاضة الجوعى في 17 و18 يناير 1977؛ والثانية هي خطبته إثر توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد في 4 أكتوبر 1978. وأخيرًا جاءت خاتمة الكتاب لتتضمن أهم نتائجه وقائمة بدراسات مستقبلية مقترحة وبعض التوصيات التي تخص دراسة لغة السياسة العربية.
البلاغة الأبوية والدينية في الخطاب السياسي العربي
استنادًا إلى التحليلات المعمقة لعشرات الخطب يصل الكتاب إلى عدد من النتائج العامة التي تخص الخطاب السياسي للسادات.. من هذه النتائج أن خطب السادات السياسية لم تكن معنية بوصف العالم بقدر ما كانت منخرطة في إنشائه وتشكيله وتغييره. فخطبه لم تكن "قولاً" سياسيًا بقدر ما كانت "فعلاً" سياسيًا. فبواسطة لغة الخطب أُنجزت أفعال الوعد والتهديد والإغراء والإقصاء والتمييز والإدماج والتحريض وفرض الصمت..إلخ. كانت اللغة العدَّة والعتاد في كثير من الظروف السياسية، فأُنجز بالإقناع ما لم يكن من الممكن إنجازه بالقمع. هذه النتيجة تضع على الباحثين عبء الفطنة بما تفعله الخطابة السياسية، وعبء تطوير أدوات منهجية تمكِّن من تقصي ما تفعله، وتعين على تفسير كيف تقوم بفعله، وتخوض تجربة إجهاض الفعل أو تعزيزه.
من النتائج العامة أيضًا ما يخص الاستخدام الطاغي للخطاب الديني في الخطاب السياسي للسادات. فقد كان الخطاب الديني بذخيرته الخطابية من نصوص مقدسة وتراث شعبي ديني ونسق كامل من الرموز والعلامات الدينية مكونًا أساسيًا من مكونات لغة السادات السياسية. وقد تم توظيفه توظيفًا سياسيًا نفعيًا، فوضِعت قوته التأثيرية في خدمة أغراض سياسية، واستخدمت نصوصه المقدسة لتنجز أفعالاً سياسية. فحل التأثير الديني محل الحجاج العقلي، والخطاب الفئوي محل الخطاب الجماهيري، والصمت المذعن محل النقد المباح. وما زلنا حتى الوقت الراهن ندفع ثمن فتنة طائفية، حملتها أرحام خطب الساسة، وولدت على أيدي ممارساتهم الخطابية.
من النتائج العامة كذلك أن الخطب المدروسة تمثل حالة نموذجية لما يمكن تسميته "الخطابة الحميمة". فقد كانت خطب السادات دومًا في متناول المواطن العادي؛ سواء من حيث لغتها ومعجمها وتراكيبها أو من حيث طرق أدائها. كانت خطبه العامية -وهي القسم الأكبر من الخطب- تنهل من نفس الذخيرة الخطابية التي ينهل منها هذا المواطن وتتوسل بها. فغدت حافلة بالمفردات التي تنتمي إلى قلب الريف المصري والتراكيب التي تتسم بالبساطة المتناهية، والأمثال الشعبية السيَّارة والعبارات المألوفة والاستعارات المتداولة والسخرية التي تكاد تتحول إلى تنكيت والحكايات المثيرة التي تتشابك وتتشابك حتى تكاد تصبح الخطب أدغالاً من الحكايات الملتفة، وعبارات الود والألفة التي تشبه تلك التي يستخدمها الحكاء في مد الجسور مع جمهور مفتون. إضافة إلى الإتقان البديع لتوزيع مساحات الصمت والكلام وأوان اللعثمة والطلاقة، والتمكن من تطويع نبرات الصوت وحركة الجسد، مستلهمةً الأداء الشعبي لفعل الحكي والكلام. هذه العناصر أسهمت جميعًا في أن تتغلغل الخطب في الطبقات والفئات الشعبية المصرية، وأن تقيم جسورًا من الألفة والحميمية معهم.
يكشف القسم التحليلي عن انشغال الخطب الفائق بصياغة التاريخ وتوظيفه في صناعة الحاضر والمستقبل. لقد كان الماضي محور كثير من الخطب؛ سواء أكان الماضي الديني أم الوطني، السياسي أم الاجتماعي، الفردي أم العام. وسواء أكانت صياغته تتم بواسطة التناص والتضفير الخطابي أم بواسطة الاستعارة. ويمكن القول إن صياغة الماضي كان استراتيجية خطابية فاعلة في خطب السادات. لم يكن الماضي مقصودًا لذاته. فالماضي بوابة الحاضر وقنطرة المستقبل. وكل صياغة للماضي توجهها ظروف الحاضر وحاجاته. وهكذا كانت الخطب وهي تكتب تاريخ مصر الحديث تصوغ واقع مصر المعاصر. وإذا كان المصريون يحلمون بمستقبل مغاير فعليهم أن يكتبوا تاريخًا جديدًا؛ لا تحكمه مصالح قلةٍ مسيطرة، بل تحركه هموم وأحلام الوطن.
لقد كانت خطابة السادات "الحميمة" أداة أساسية من أدوات الاتصال السياسي في عصره. وأتاح ذلك تعزيز التواصل الدائب بين مؤسسة الرئاسة والشعب المصري. وقد نجحت الخطب إلى حد بعيد في إحداث تغييرات جوهرية في توجهات وسلوكيات قطاعات عريضة من الشعب المصري من قضايا جوهرية مثل فكرة القومية العربية والصراع العربي الإسرائيلي. هذا النجاح يمكن أن يُفسَّر إلى حد كبير بواسطة التحليل اللغوي والبلاغي للخطب. وقد حاول المؤلف في هذا الكتاب تفسير ذلك في خطب بعينها من خلال دراسة ظواهر محددة.
اللغة والسياسة والدين: علاقات متشابكة
لقد أثبت التحليل المتعمق للاستعارات التي استخدمها السادات في صياغة العلاقة بينه وبين المصريين مثل (رب العائلة المصرية)، و(كبير العائلة المصرية) أن هذه الاستعارات تعمل كسلطة رمزية فاعلة. هدفها تجريم أية معارضة محتملة للسلطة، والقضاء على أية معارضة ممكنة لها، بواسطة تحويل المعارضة والنقد من حقوق سياسية مباحة للجميع إلى سلوكيات أخلاقية مشينة تندرج في إطار "العيب" و"قلة الأدب". فهذه الاستعارات تستهدف خلق عالم موازٍ يشمل جميع تجليات الحياة السياسية في مصر. في هذا العالم تحل العائلة ومؤسساتها وقيمها محل الدولة ومؤسساتها ودستورها. فالعائلة تحل محل الدولة بمؤسساتها صغيرة كانت أم كبيرة، والأبوة تحل محل العقد الاجتماعي، والأب يحل محل الحاكم، والأم تحل محل "الوطن"، والأبناء يحلون محل المواطنين، وأخلاق القرية تحل محل الدستور، والقيم تحل محل القانون، والعيب يحل محل الخروج على القانون، ومجلس العائلة يحل محل مجلسي الشعب والشورى..إلخ.
حاول الكتاب أيضًا تفسير كيف يُنجز الخطاب السياسي أفعالا سياسية كالتحريض والتهديد، وذلك من خلال تحليل الصورة التي شكلها العصر الساداتي لصورة مصر قبل الثورة، بواسطة عدد من الاستعارات التي تربط بين الحياة في مصر قبل الثورة والحياة الجاهلية، فتمزج بين عالم ما قبل النبوة وعالم ما قبل الثورة من ناحية، وعالم ما بعد النبوة وعالم ما بعد الثورة من ناحية أخرى، حتى يحل أحدهما في الآخر. فقد انتقت خطب السادات عناصر محددة من العالمين لتمتزج في فضاء المزج الاستعاري؛ منها ما يخص طبيعة الأنظمة الحاكمة والجماعات المسيطرة في كليهما، وامتدادات كلا العالمين في وقت إنتاج الخطب (الأحزاب امتداد لما قبل الثورة، وحكم السادات امتداد للثورة). كما يمتزج في هذا الفضاء أيضًا المشاعر والانفعالات والأحكام التقييمية والأخلاقية التي توجد لدى الجمهور، وتخص كلا العالمين ومن يمثلونه. وأخيرًا القرارات والأفعال السياسية التي تحاول الخطب أن تربط بينها وبين ثنائية الجاهلية والإسلام؛ مثل تقييد عمل الأحزاب السياسية التي اقترن شيوع هذه الاستعارة في عامي 1977، 1978، بازدهارها وتصاعد جماهيريتها؛ خاصة حزب الوفد الجديد.
لا تكمن فعالية هذه الاستعارة في استدعاء الصورة النمطية للعصر الجاهلي فحسب، بل في المشاعر والمواقف والاتجاهات التي تصاحب عملية الاستدعاء. فالشعب المصري المسلم يكره الجاهليين الكفار، ويتوحد مع المسلمين الأوائل في صراعهم مع الجاهليين. وعلى ذلك فإن المزج بين الأحزاب الجديدة والجاهليين ينطوي على تحريضٍ غير مباشر على هذه الأحزاب. كما أن إسقاط نعت "الجاهليين" على رجال ما قبل الثورة يتضمن تبريرًا مقبولاً إلى درجة كبيرة بين أوساط كثير من فئات الشعب لما يمكن أن تكون الثورة قد فعلته بهؤلاء "الجاهليين"، وما ينوى النظام أن يفعله بمن بقي منهم، خاصة الوفديين الجدد الذين كانوا أحد المنافسين الفعليين للحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتزعمه السادات في ذلك الوقت، وقد حظي حزبهم القديم "الوفد" بنصيب الأسد من نعوت الجاهلية.
حاول المؤلف كذلك أن يفسر كيف يؤدي تناص الخطب السياسية للسادات القرآن الكريم إلى التضفير الخطابي بين خطابين متمايزين هما الخطاب السياسي والخطاب الديني. وكيف أن هذا التضفير الخطابي هدفه استثمار خصائص الخطاب الديني الإلهي، وتوظيفها في خدمة الخطاب السياسي. هذا الاستثمار لا يقتصر على الإفادة من القدرة الإقناعية أو التأثيرية للخطاب الإلهي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى الإفادة من الضوابط الصارمة التي تُفرض على طبيعة استجابة "العباد المؤمنين" الذين يستقبلون الخطاب الإلهي. ومن خلال تحليل تفصيلي متعمق لخطبة السادات بعد أحداث انتفاضة الجوعى في يناير 1977، يكشف الكتاب عن الكيفية التي تتم من خلالها استخدام النص القرآني بهدف إدانة من شاركوا في هذه الانتفاضة وتبرير عملية "ضربهم بيد من حديد" بحسب تعبير السادات. كما قام المؤلف بمحاولة تتبع الدور الذي لعبه توظيف السادات للنص القرآني في خطبه في السنوات الأخيرة من حكمه في دفع العلاقات العربية-المصرية إلى مشارف القطيعة، وذلك من خلال تحليل طريقة استخدامه للنص القرآني في خطبته الشهيرة التي ألقاها إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ووصف فيها الدول العربية بالكفر والباطل والعمى في مقابل وصف نفسه بالإيمان والحق والبصيرة مستندا إلى آيات قرآنية تدور حول نفس المعنى.
أفق دراسة الخطاب السياسي العربي
اقترح المؤلف في نهاية كتابه عددًا من الموضوعات للدراسة منها استكمال دراسة مكونات البلاغة السياسية لخطب السادات؛ مع التركيز على ظواهر جوهرية مثل؛ تقنيات السرد والحكي الشعبي، وبلاغة استخدام العامية المصرية، وبلاغة الأسامي، والسخرية، والكناية. وإنجاز دراسات بلاغية مقارنة، تدرس الخطب السياسية المصرية عبر الحقب المختلفة؛ لاستخلاص أوجه الشبه والاختلاف. ومواقع الانقطاع والاتصال، أملاً في بلورة ملامح الخطابة السياسية المصرية في العصر الحديث.
كما اقترح أن تدرس على نطاق واسع طرق إنشاء الخطاب السياسي المصري (والعربي) المعاصر. ويمكن لهذا الكتاب أن يعالج مسائل مثل: من الذي يحرر الخطب الرئاسية؟ هل تحرير الخطب الرئاسية عمل فردي أم مؤسساتي؟ ما طبيعة العلاقة بين محرري الخطب ومؤسسة الحكم التي يعملون لصالحها؟ هل يوجد صراع بين إيديولوجيا محررو الخطب وإيديولوجيا السلطة التي يعملون لصالحها؟ ما تأثيرات محرري الخطب على الحياة السياسية؟ بالإضافة إلى إنجاز دراسات وافية حول الاستعارات التي تُستخدم في تأسيس العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي. وذلك تطبيقًا على مدونات من الخطب السياسية لرؤساء وملوك عرب معاصرين. على أن تكون هذه الدراسات معنية بوظائف هذه الاستعارات، والتأثير الذي يُحتمل أن تُحدثه على مستقبل الديمقراطية في العالم العربي من ناحية، وعلى صياغة استعارات بديلة وتقديمها للمشتغلين بالعمل السياسي من ناحية أخرى.
واقترح أخيرًا دراسة الأبعاد البلاغية للخطابات التأريخية واسعة الانتشار؛ خاصة التأريخ "الرسمي" الذي تقدمه المؤسسة التعليمية الرسمية ووسائل الإعلام المملوكة للدولة. وذلك بهدف تعرية الطرق التي تُستخدم بها الأدوات البلاغية في مساندة "منظور" ما للتاريخ على حساب منظورات أخرى. ودراسة التشكل الخطابي للهوية العربية منذ العصر الحديث. فربما كان العرب بحاجة إلى دراسات تكشف عن المكونات الخطابية لهويتهم في الوقت الراهن، حيث تذوب الهويات، وتتلاشى، أو يعاد صياغتها في شكل هويات طائفية أو عرقية أو قبلية، تنذر بأفق مظلم من "تصارع" غير صحي بين الهويات. وبرهن على أهمية إنجاز قواميس سياقية للمصطلحات السياسية التي يستخدمها السياسيون العرب في كلامهم أو نصوصهم، تكون حجر أساس للدراسات اللغوية والسياسية معًا. ويمكن أن يتبع ذلك دراسات متعمقة في آليات صياغة المصطلحات السياسية في العالم العربي، ووظائفها وتأثيراتها وكيفية مقاومتها في بعض الأحيان.
ما الذي تفعله لغة السياسة بنا؟
قدم المؤلف في خاتمة الكتاب عددًا من التوصيات منها أهمية مراجعة واقع الدراسات اللغوية العربية المعاصرة، التي تبدو منعزلة بشكل كبير عن المحيط الاجتماعي الذي تنتمي إليه. ومواجهة القيود والعراقيل التي تحد من حرية حركة هذه الدراسات، وتفرض عليها التقوقع داخل التراث، وقطع صلاتها بالعالم الذي تنتمي إليه.
كما أوصى بضرورة إحداث تطوير جذري في الدراسات البلاغية الأكاديمية في العالم العربي، لكي تكون أكثر انفتاحًا على خطابات الحياة اليومية، وأكثر قدرة على طرح أسئلة معرفية جديدة، وتبني منظورات غير تقليدية في دراسته. ودعا إلى أن يكون كتابه خطوة في سبيل فهم الكيفية التي تعمل بها اللغة الدينية في المجال السياسي؛ سواء أكان مستخدموه من رجال الدين المسيَّسين أم من رجال السياسة الساعين لاستغلال اللغة الدينية. انطلاقًا من قناعة بأنه يمكن من خلال دراسة التضفير الخطابي بين الخطابين السياسي والديني في سياقات زمنية وثقافية مختلفة الوصول إلى فهم دقيق لطرق اشتغال الخطاب الديني السياسي، والخطاب السياسي الديني.
وأخيرًا، دعا المؤلف أن يكون الكتاب خطوة نحو الإجابة عن أسئلة تحتاج إلى تكاتف جمع من الباحثين للإجابة عنها هي: ما الذي تفعله لغة السياسة بنا (شعوبًا وأفرادًا)؟ وما الذي يمكن أن نفعله نحن بها (شعوبًا وأفرادًا أيضًا)؟ وما دور البحث الأكاديمي في تعزيز ما يمكن أن نفعله بلغة السياسة؟ ومقاومة ما يمكن أن تفعله بنا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.