الثورة لم تنجح لكنها لم تنته حتى الآن. الثورة تفشل عندما يعلن الثوار أنها فشلت. الثورة تنتهى حين يقول الثوار إنها انتهت. وثورة 25 يناير لم تنته كما أنها لم تكتمل ومن ثَم فهى لم تنجح حتى الآن. ولكن مَن هم الثوار؟ ليس بالضرورة أبدا أن يكون الثوار عدة ملايين، بل قد يبدأ الثوار بضع مئات ويستمرون كذلك، وربما بضعة آلاف لكنهم يقودون أمة، الثورة ليست بالعدد لكن بالحلم وبالإجماع والتصميم والإصرار والتضحية. وثورة 1919 نجحت عام 1956.. لم تحقق ثورة 19 هدفها بالحرية والاستقلال عن إنجلترا إلا بعد سبعة وثلاثين عاما حين تم جلاء آخر جندى إنجليزى عن مصر. لقد استلزم الأمر ثورة أخرى هى ثورة يوليو. ثورة يوليو نفسها أصبحت ثورة بعد سنوات من قيامها ثم نجحت فى تحقيق هدفين من أهدافها وفشلت حتى 24 يناير 2011 فى تحقيق ما تبقى من أهداف. لكن هل مظاهرات 25 يناير الجديدة ستنجح فى استعادة أهداف الثورة، ثم فى إنجاحها؟ دعونى أستعِدْ معكم مظاهرات 25 يناير 2011، وهل كانت الأهداف واضحة، وهل كان النجاح ينتظرنا على مدخل الميدان؟ كان الطريق فى هذا الثلاثاء على كوبرى قصر النيل بعد دقائق من انفتاح صفوف الأمن ودخولنا نقيضَ الجمعة التالية التى كان العبور فيها فوق هذا الجسر استشهاديا رأينا فيه موتا فى كل شبر، كانت هرولة الجميع زحفا إلى الميدان تؤكد حرصا وشجاعة وكسرا لحاجز الخوف، هذا الذى شكّل مفتاحا لشفرة خزينة الضمير المصرى الذى انطلق بنهار هذا اليوم، حاجز الخوف الهائل العالى حتى حدود أعمدة المعابد الفرعونية السميكة كحجارة الأهرام، الكامن العميق كصمت أبى الهول انكسر فى هذا النهار، فى العيون المتألقة تصميمًا ومن الألسنة الناطقة عزمًا وفى الصدور المفتوحة للخطر بكل احتمالاته. فى الميدان حيث دخلت مع أول مئات دخلوا الميدان يومها كان الناس يحيطون بى ويرفعوننى فوق أكتافهم وسط رفض مخلص من جانبى وبحفاوة الاستفتاء بشخص يعرفونه كانوا يمطروننى بالأسئلة: ماذا نفعل الآن؟ ما الخطوة القادمة؟ هل نستمر فى التحرير؟ هل نذهب إلى القصر الجمهورى؟ هل نتظاهر أمام مبنى التليفزيون؟ بماذا نهتف؟ بعضهم كان يسأل: ماذا نفعل هنا؟ كان الغضب ضد النظام قد تحول بعد دخول ميدان التحرير إلى وهج بالفرحة وشعور هائل بالانتصار والانتشاء، كان الوصول إلى الميدان إعلان فوز، خطوة هائلة فى تاريخ يشهدونه ويعيشونه ويصنعونه، الوجوه متعددة جدا لكن خيطا يجمعها، معظمهم ينتمون إلى شريحة شابة متعلمة مستفهمة عن وطنها مبادِرة فى المشاركة فى المظاهرات لأول مرة، الزِّى والاستعداد بارتداء أحذية رياضية وزجاجات المياه الصغيرة الموضوعة فى جيوب المعاطف القصيرة كانت تقدم أصحابها باعتبارهم قادمين من تلك الطبقة المنبسطة اقتصاديا، رجال فى الأربعينيات من العمر، بعضهم رجال أعمال يصل رأسمال أعمالهم إلى عشرات الملايين، يصحبون أو مصحوبين من أبنائهم طلبة فى جامعات مقتدرة، لغة الكلام ونوعية أجهزة التليفون المحمول تعرّفهم اقتصاديا أنهم أبناء رسالة، كان الميدان كله فى هذا اليوم تحديدا مكونا من أصحاب الرسالات، شباب بتقاطعاته ورجال بطبقاتهم ونساء قدمن من منطقة الوعى والمشاركة فى الحياة السياسية والمدنية لا من باب الولاء التنظيمى، يشبهن أمهات الشباب الواقف وينسجن مع وجود الرجال لونا متقاربا من الطبقة الوسطى التى تزعّمت عن جدارة هذا اليوم. يوم 25 يناير.. لكن الأسئلة كانت تغمرهم مع السعادة أيضا.. اقترب واحد من المتظاهرين حتى تداخل فى الحلقة التى التفت حولى وقال فَرِحا ومصدقا ومبشرا بعلو الصوت يزف لنا خبرا: -يا جماعة بيقولوا إن النظام سقط. كان الأمر مثيرا للضحك وللسخرية داخلى لكننى فوجئت بمن يستفسر منه عن تفاصيل، كان الخبر مبكرا جدا وهزليا تماما فى حينها لكنه -للمفاجأة- تحقق بعد سبعة عشر يوما بعد اللحظة التى زفه فيها إلينا زميل المظاهرة. كانت إجابتى عن كل الأسئلة مع خفوت الصوت بتكرار الخطب فى مواجهة إلحاح السائلين هى ضرورة البقاء فى الميدان صارخا «نحن هنا حتى يسقط النظام، لقد حررنا ميدان التحرير ومنه سنحرر مصر». فى ما بعد فى جمعة الانتصار بعد تنحى مبارك وجدت كثيرين يذكروننى بهذه الكلمات فى اليوم الأول. ونحن الآن بعد عام كامل من ذلك اليوم البعيد القريب ماذا لو تفضل البعض وسألنى نفس السؤال: ماذا نفعل؟ ما الذى ستكون عليه الإجابة؟ أكتب هذه السطور قبل أن أذهب إلى ميدان التحرير فى أربعاء 25 يناير وسأدخله من نفس المكان الذى دخلت منه قبل عام وسأجيب هناك عن السؤال القديم الجديد خصوصا وأنا أعرف تقريبا يقينا أننى سأرى نفس وجوه 25 يناير 2011 تحمل نفس الأحلام وذات الأسئلة!