علي العكس من معظم الأفلام التي تحاول مواكبة الأحداث الجارية، وتصل متأخرة إلي الجمهور في أحيان كثيرة، فإن فيلمًا مثلUp in the Air جاء في توقيت ممتاز ليتعرض لقضايا حيوية معاصرة علي غرار هيمنة الشركات علي حياة البسطاء والاقتصاد الهش والشعور السائد في الغالبية العظمي من المجتمعات بعدم الأمان والافتقار للثقة بالمستقبل، ويجتهد صناع الفيلم في الوصول إلي درجة كبيرة من الدقة والمنظور السليم في تصوير مسألة حساسة للغاية، وهي الكيفية التي تجعل الإنسان يعرِّف نفسه بعمله فقط لا غير، وما الذي قد يحدث إذا فقد أحدنا هذا العمل الذي يجعله يشعر بكيانه، وليست الخسارة من الناحية المادية والاستقرار الاقتصادي فقط، بل الأهم هو كيف يمكن أن يخسر المرء منا هويته ذاتها مع عمله؟ لكن لا يقلقنك هذا الكلام الذي قد يبدو لك معقدًا، فرغم أن الفيلم يحمل عددًا كبيرًا من الأفكار والمواضيع الفلسفية المهمة في حياتنا اليومية، فإنه لا يرتدي قناع المحاضرات الأكاديمية الجامدة ليثير مللك. طبعًا ليس التوقيت وحده يجعل الفيلم ناجحًا، فكي تقبل بابتلاع هذه الكبسولة المرة، قرر المخرج جيسون رايتمان تغليفها بطبقة لا بأس بها من السكر تغريك بمتابعة الفيلم إلي نهايته، بل وتغريك بالتفكير في مشاهدته مرة أخري قبل نزول تترات النهاية حتي الجزء المرير من القصة هو الشعور الذي سيصاحبك بالشفقة علي بطل الفيلم الذي ينطبق عليه العنوان تمامًا، فهو رجل بلا محل إقامة محدد يقضي معظم أيام السنة في رحلات طيران بين مدينة وأخري؛ حياته كلها عبارة عن تنقل بين الفنادق وقاعات الندوات والشركات التي يقضي فيها عمله، وهو عمل ليس من السهل أن يقبل به أحد، فبرغم عائده المادي المجزي فإنه من العسير أن تتصور أن مصدر رزقك في الحياة هو قطع أرزاق الآخرين، فوظيفة البطل في الفيلم ببساطة هي إبلاغ موظفي الشركات بطردهم من وظيفتهم بعبارات معسولة ليتلقي منهم عبارات الاستعطاف والدموع وأحيانًا الشتائم واللعنات، وكل هذا بدلاً من مدرائهم الحقيقيين الذين يفضلون البقاء بعيدًا عن المدفع. الغريب أن البطل لا يشعر بذرة تأنيب ضمير واحدة تجاه عمله هذا، ويتعامل معه علي أنه طبيعة ثانية ومجرد عمل بلا مشاعر علي الإطلاق، لكن مشكلته الحقيقية هي حياته في عزلة دائمة عن الجميع رغم أنه محاط بالبشر طوال الوقت، لكنه لا يرغب في الاختلاط بهم أو الوقوع في الحب وتكوين أسرة أو أي شيء آخر يريده ويتمناه الإنسان العادي، إلي أن يلتقي في إحدي رحلات العمل بامرأة هي نسخة أنثوية منه - في الطباع وليس الملامح! - وعندها تتجاذب الأطراف المتشابهة، بينما الطرف المتنافر هو تلك الموظفة الجديدة في شركته التي يضطر لتدريبها علي أصول المهنة بعد أن قرر رؤساؤه إدخال تعديلات جوهرية علي نظام العمل ستحرمه من ارتحاله المستمر الذي يعتبره حياته. رايتمان كتب السيناريو بحرفية وعناية شديدة جعلت الحوار كله متقدًا بالعبارات الذكية الجذابة التي ظلت تتقافز علي لسان جورج كلوني الذي يبدو أن الدور مفصل له تفصيلاً، ليس لأن السيناريو كُتب من أجله، بل لأنه بالرغم من إجادة كلوني لأداء مختلف الأدوار، فإن هذا الدور بالذات يجعله يتألق بالشخصية التي تحمل مسحات من نجوم هوليوود القدامي ممزوجة بالشخصية المعاصرة، وهي خلطة يبرع كلوني في تقديمها دائمًا، كما أدت فيرا فارميجا دورًا محببًا خفيفًا للمرأة التي علي أعتاب الأربعينات من عمرها ولا تزال تستمتع بحياتها، بينما كانت مفاجأة الفيلم الحقيقية هي آنا كندريك - الشهيرة بدور جيسيكا في Twilightوالتي لعبت دور الموظفة صغيرة السن المليئة بالأحلام والتي تصدمها قسوة الواقع. كل هذا ظهر علي الشاشة من خلال صورة جميلة ومعان جاءت نطقًا وأحيانًا رمزًا دون مبالغة في التعبير، حيث تكفي اللقطات التي ترينا كيف تبدو المدن رائعة الجمال من الطائرة بعيدًا بالأعلي بينما يعاني الناس أيما معاناة عندما نقترب من الأرض أكثر.