برنامج «خريف العمر»، برنامج قديم كان يشتمل علي لقاءات بداخل إحدي دور المسنين حيث يجتمع هؤلاء المسنون ويتحدثون أمام الكاميرا الواحد تلو الآخر بصعوبة شديدة مستنجدا بطاقته الكامنة في جسده المنهك لاخراج الكلمات، ويحاولون محاولات جادة مع المذيعة إقناع الناس بأن الحياة تبدأ بعد الستين، لأن هذا هو ربيع أو خريف العمر أيهما أوقع وأصدق قولا.... هؤلاء يبارزون الأيام مبارزة عنيفة للاقتناع بأنهم يستطيعون فعل شيء ما، هذا الشيء الذي ربما لا يتعدي سوي الابتسام قليلا، دون أن تؤلمهم عظام وجوههم، أو جدوي حياة يوم آخر... وتستمر المذيعة في سرد الأنشطة التي تقوم بها الدار مساهمة منها في رفع الكآبة عنهم، تلك التي تحيط بهم من كل جانب، وتنطق بها ذكرياتهم التي يحاولون سردها ولكن وقت البرنامج محدود ولا مجال لذلك.... مفتقدون لذكريات الماضي والرحلة الطويلة التي عايشوا كل تفاصيلها حتي وصلوا إلي هنا، لكنهم عايشوها مع آخرين، يبحثون عنهم الآن لذلك وجب لهم السرد فأني يجدون المستمع... تقدم السنون لاحقا كان كفيلا بإخباري أن الأمر قد تغير فصرنا نحاول الاستمرار بالحياة بعد سن ال23، حيث أصبح هذا هو خريف العمر.. يقال إن الأم الألمانية حين يقع ولدها ويبدأ في سيمفونية البكاء والصراخ لاستمالة قلبها، فهي لا تعيره انتباها فيزداد حنقه وسخطه ويعلو بكل المقامات الصوتية التي لديه لعلها تحمله حتي ولو لتخفف عنها حرج نظر الآخرين إليها علي أنها أم فولاذية لم يرق قلبها لبكاء طفل رضيع.. ويستمر الطفل في البكاء وتخف حدة صوته تدريجيا من فرط الإرهاق حتي يصمت ويري أنه لابد من القيام وحده ودون مساعدة من أحد، ويقف فتقترب منه أمه وتربت علي كتفه وتهديه قبله علي شجاعته وتحمله المسئولية.... لكننا نحمل الطفل سريعا فور الوقوع، فيشب علي أن أحلامه لابد وأن تجاب فور زيارتها لذهنه، ويشب طفلا يحبو ويظل يحبو في مدرسته وهو يلقن كل شيء فلا يفكر، ولماذا يفكر وهناك من يفكر له ويلقنه ولا ينتظر منه جديدا، ويلتحق بالجامعة وهو يحبو ليخرج منها أكثر حبوا، وهو طوال تلك الفترة لا يعلم أن أوان فطامه قد صار بعيدا جدا جدا علي أن يلحق به... وطوال مراحل حبوه، أمه تربت عليه وأبوه يحل مشاكله فهو مازال يحبو لا يستطيع الوقوف مستقيم الظهر دون الوقوع أرضا مرة أخري، لم يتعود... ولن يتعود... وحين يصرخ به أبوه أن يتحمل مسئولية ما يتعجب من هذا الظلم والاجحاف، فهو مازال يحبو وكيف لطفل صغير أن يتحمل كل شيء وحده، ويصير شاباً فرجلاً فمسنا وهو لم يأخذ قراراً بمفرده يتحمل مسئوليته الكاملة، وهو سعيد راض كل فترات حياته الماضية فلِمَ يحمل عناء شيء فكل شيء كان متاحاً، الحبو.. والتربيت.. وإجابة الصراخ.. حتي ذووه كانوا سعداء بذلك، لا تصدق قول أن هذا التعلق الشديد من فرط الحب، الحب ليس سجنا ولا احتلالا، الحب قدر كبير من الحرية والثقة، الثقة في أني إذا علمتك أولي خطواتك فسأتركك تكمل الطريق وحدك وأن أنظر إليك لأطمئن من بعيد، لكنهم كانوا جبناء خائفين ربما من أنفسهم أنهم لم يستطيعوا زراعة شيء ينمو بداخلك مع الأيام فتعرف كيف تقرر وتتصرف دون الإساءة لك أو لغيرك، أو خائفين من فقد تلك السيطرة التي يستمدون منها معني وجودهم وجدواه، يتخفون وراء دعاوي الخوف علي مصلحتك الشخصية وإعفائك من الدهر ونوازله، فأدخلوك قفصا ذهبيا لا يزيد ارتفاع سقفه فلا تقدر سوي علي الحبو منخفضا، واستمررت هكذا دون أي محاولات منك للوقوف أو ارهقتك محاولاتك السابقة فقررت أن تمضي بقية حياتك مطأطئ الرأس، متي ستملك ناصية أمرك؟؟؟ لا إجابة لهذا. أما إن قررت الحبو فسيظل كل من حولك يدعك لمزيد من الانخفاض، حتي تكبر وتنور قواك فيضعوك بعيدا عنهم في مكان يحاول كل من فيه أن يتحدث بملء طاقته ليخرج الكلمات واضحة وصحيحة ليتعاون مع المذيعة لإقناع المشاهدين أن الحياة تبدأ بعد الستين، علي الرغم أنك بداخلك تعلم أن الحياة قد انتهت منك باكرا للغاية في الخريف الثالث والعشرين....