البلد تشتعل.. مواجهات بين المتظاهرين الغاضبين الساخطين وقوات الأمن أسفرت عن سقوط شهداء وإصابة المئات في أقل من 24 ساعة.. الإفراط في استخدام القوة بنفس الأساليب والآليات التي كانت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع ثورة 25 يناير.. البطء القاتل في التعامل مع الأحداث وسيطرة "المنطق الأبوي" المستبد من قبل المسؤولين عن إدارة البلاد في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر المعاصر.. في هذا التقرير رصد لمجموعة من آراء المثقفين حول الأحداث الجارية منذ الأمس والمستمرة بتداعياتها العنيفة حتى كتابة هذه السطور.. الدكتور شاكر عبد الحميد الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وأحد كبار المتخصصين في علم النفس، وصف ما يحدث في ميدان التحرير منذ الدعوة إلى مليونية الجمعة 18 نوفمبر وما تلاها من مصادمات بين الأمن والمتظاهرين والمعتصمين داخل ميدان التحرير بأنه "فوضى وهمجية" ولا يصح أن تصل الأمور إلى هذا الشكل المؤسف من العنف والعنف المضاد، حاملًا على من يستعرضون عضلاتهم السياسية ويحشدون الحشود بغرض التخويف والتلويح باستخدام القوة في مواجهة الحكومة أو المجلس العسكري، فيما يمكن أن يؤدي إلى إسقاط هيبة الدولة وسيادة الفوضى، ويرى أن هناك هجوما عنيفا وغير مبرر ضد المجلس العسكري، مشيرا إلى تصريحات اللواء محسن الفنجري عضو المجلس العسكري التي أدلى بها بعد منتصف ليل أمس، وقال فيها إن الجيش سيعود إلى ثكناته قبل نهاية 2012 إذا استقرت الأوضاع وسارت الأمور في مسارها المخطط له من قبل المجلس العسكري (إجراء الانتخابات البرلمانية، تشكيل لجنة وضع الدستور، الانتخابات الرئاسية) ثم تسليم البلاد للسلطة المدنية المنتخبة. وقال إنه لا بد من الحفاظ على هيبة الدولة والتصدي بكل حزم وقوة ضد كل الخارجين على القانون والساعين لإسقاطها والتربص بها وبمقدراتها وجر البلاد إلى فوضى عبثية لا معقولة.. وحمل الدكتور شاكر بكل صراحة ووضوح ضد من يسعى لانتهاز هذه الأحداث واستغلالها من خلال آليات تخويف الشارع وإرهاب الناس والتلويح باستخدام العنف، متهما صراحة التيارات الإسلامية (الإخوان والسلفيون) بإثارة الذعر واستعراض العضلات للسيطرة على الشارع السياسي خلال الانتخابات القادمة.. وتساءل: هل من المعقول أن تتم الانتخابات البرلمانية في ظل هذه الأجواء العبثية المرعبة؟! مجيباً بأن هذا في ظل هذه الأحداث "مستحيل"، وأنه آن الآن أن نعبر عن آرائنا في هذا العبث الذي تمارسه بعض التيارات والقوى السياسية بمنتهى الجرأة والصراحة. الدكتورة سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع المعروفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، دانت بمنتهى الحسم ما أسمته ب"العنف المنظم" من قبل قوات الأمن ضد المتظاهرين أو المعتصمين في ميدان التحرير أو غيره من الميادين في محافظات مصر، مشيرة إلى أنه على قوات الأمن والمسئولين عن إدارة البلاد التفرقة بين شباب الثورة الواعي الغيور على مستقبل البلاد والذين يعبرون عن آرائهم ومسيراتهم بشكل سلمي وبين من يندسون وسطهم من الساعين إلى الإثارة والتخريب، ودعت إلى عدم اللجوء إلى آلية "التعميم" المخلة التي يلجأ لها ويطبقها قادة البلاد في هذه الفترة، ووجهت حديثها إلى مديري الأمن وضباط الشرطة الذين يتعاملون بعنف بالغ مع المتظاهرين بأنه يجب عليهم أن يراجعوا آلياتهم العتيقة في مواجهة مثل هذه الأحداث وأن يوجهوا تلك القوة المفرطة في مجابهة البلطجية والعصبجية والمجرمين وتجار المخدرات والسلاح الذين يعيثون فسادا في طول البلاد وعرضها دون ملاحقة حقيقية يلمسها المواطن البسيط في الشارع والقرية. وبسؤالها عن استبداد "المنطق الأبوي" في خطاب السلطة الحاكمة للبلاد الآن الذي تجلى بعنف في تصريحات اللواء الفنجري بالأمس، أجابت الدكتورة الساعاتي بأن هذا المنطق يسود السلطة الحاكمة في مصر منذ عشرات السنين وأشارت للتدليل على تغلغل هذا المنطق إلى واقعة السادات الشهيرة مع عبد المنعم أبو الفتوح في أواخر السبعينيات بجامعة القاهرة، موضحة أن هذا المنطق أحادي ومستبد وغاشم ويلغي العقل إلغاء كاملا ويفرض الانصياع الكامل من قبل المحكومين للحاكمين انطلاقا من أن الحاكم دائما على صواب وهو الأدرى بمنفعة وصالح الشعب، وأنه لا يجوز إطلاقا معارضته أو مناقشته أو الوقوف ضد قراراته، ومن ثم فكل من يخرج على هذا الإطار الحاكم المستبد لا بد أن يوصم ب"العمالة"، و"الجهالة"، و"التخوين". أما الدكتور محمد عفيفي، الأستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، لخص ما وصلت إليه الأحداث في "سوء إدارة المرحلة الثورية" التي يطلق عليها البعض بكثير من التجاوز وعدم الدقة "المرحلة الانتقالية"، مؤكدا أن الثورة ليست "ترفا" ولا "نزهة" عابرة في مجرى التاريخ، وأنه يجب علينا جميعا أن نتحمل تبعات قيام الثورة ومتطلباتها اللازمة من إجراء تغيير جذري وشامل في بنية المجتمع والناس والمؤسسات، وهذا لا يتأتى بتلك الطريقة التي يتبعها المجلس العسكري خلال الأشهر السابقة. وعاد إلى الوراء قليلا لاستجلاء الصورة والأحداث الراهنة، قائلا إن نظام مبارك السابق كان يجب عليه ومنذ فترة طويلة أن يلجأ إلى خيار الإصلاح وتجنيب البلاد مغبات تفويت هذه الفرصة، وأن خيار الإصلاح لم يكن ترفا ولا خيارا مطروحا ضمن خيارات أخرى، بل كان هو الخيار الوحيد المتاح. ولأن النظام السابق كان أوهى وأضعف من أن يلجأ إلى الإصلاح، فكان من المحتم حدوث الانفجار و"اندلاع الثورة"، ومن الطبيعي جدا في تاريخ الثورات أن يحدث ما حدث من صدامات ومواجهات نتيجة أنك تعالج ركاما من الأخطاء والممارسات الفاسدة طوال عشرات السنين. وأضاف الدكتور عفيفي: أما ما لم يحدث في أي ثورة في التاريخ أن توكل مهام المرحلة الثورية إلى "الجيش" الذي هو بطبيعته مؤسسة نظامية شديدة المحافظة، وهو ما يتناقض بالضرورة مع طبيعة المرحلة الثورية، وزخمها وحراكها المندفع المتصاعد. وأوضح عفيفي أن المجلس العسكري عليه الاعتراف بقصور قدراته السياسية التي تجلى فشلها الذريع في اختيار حكومة ضعيفة غير قادرة على تسيير أمور البلاد خلال تلك المرحلة، حكومة محدودة الصلاحيات أو بلا صلاحيات تقريبا مما أدى بنا إلى الوضع الحالي. وقال عفيفي إنه للأسف الشديد المجلس العسكري لا يعترف بهذا القصور وهذا الضعف البادي في إدارة المرحلة، وهذا راجع بالتأكيد لطبيعته النظامية وبنية هيكله التي تأسس عليها منذ أيام محمد علي، وهذا ليس قدحا ولا ذما في الجيش ولا يعد سبة أو "شتيمة" أن يعترف بأنه لم ينجح في التعامل مع حدث الثورة ولا متطلبات المرحلة الثورية. وأوجز الدكتور عفيفي حل هذه المعضلة الراهنة والأزمة المتفاقمة في "الحلول التوافقية" التي ينبغي أن تسم إدارة المرحلة الثورية، والإسراع في اتخاذ الخطوات الكفيلة بنزع فتيل الأزمات المتصاعدة قبل الأوان.