انتشرت في مؤسسات التعليم العام سلوكيات تهدم مبادئ المواطنة، فلم يعد يكفينا الانقسام التاريخي الذي بدأ مع عصر محمد علي بين تعليم مدني حديث وتعليم ديني أزهري تقليدي يبدأ منذ المرحلة الابتدائية، بل بدأت ظاهرة المدارس الخاصة الحديثة ذات الطابع الديني، فانتشرت مدارس خاصة تتسمي بأسماء ذات مدلولات دينية إسلامية، وتزداد فيها الجرعة الدينية خارج المقررات الدراسية، وقد عرفت من بعض الأصدقاء التربويين أن الظاهرة انتقلت أيضا إلي المسيحيين المصريين فبدأت تظهر مدارس خاصة مسيحية كرد فعل طبيعي علي تلك المدارس الإسلامية، وهي ظاهرة ترسخ الانقسام في المجتمع علي أساس الدين. وإذا كانت المدرسة هي التي تبني اللبنات الأولي للمواطنة من خلال النظام المدرسي ومن خلال المقررات الدراسية، إذا كانت مقررات التاريخ من بين تلك المقررات تلعب دورا أساسيا لبناء المواطنة لدي التلاميذ منذ مراحل الدراسة المبكرة، فمقررات التاريخ يمكن إذا تمت صياغتها بشكل صحيح أن تشكل الوعي بمعني المواطنة وقيمتها وأهميتها، من خلال الاستعراض المتوازن للمراحل التي مر بها تاريخ البلاد، ومن خلال إبراز كل المكونات التاريخية للأمة، فإن المقررات الدراسية الأخري إذا تم إعدادها بشكل غير سليم يمكن أن تهدم المواطنة؛ فباقي المقررات الدراسية قد تضم مواد تعليمية تنمي قيم المواطنة أو علي العكس مواد تهدمها حسب ما تُحمّل به تلك المقررات من رسائل ومضامين. وللأسف فإن كثيرًا من المقررات الدراسية لدينا لا تسهم بشكل إيجابي في إقامة أسس سليمة للمواطنة تنفي التمييز، فلدينا علي سبيل المثال مقررات اللغة العربية التي تضم نصوصا دينية إسلامية من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، يفرض علي الطلاب من غير المسلمين دراستها ضمن مقررات النصوص والقراءة، وفي هذا تمييز بين الطلاب، فالطالب غير المسلم هنا يدرس نصوص دينية لا تخصه ولا يستطيع الامتناع عن حفظها ودراستها، وفي المقابل لا يدرس الطالب المسلم أيه نصوص مسيحية مثلا، وبالطبع سيحتج المتخصصون من أهل اللغة العربية وحجتهم تبدو وجيهة فعلا بأن القرآن الكريم كتاب منزل بالعربية، بينما النص العربي للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد نص مترجم إلي العربية وليس نصا عربيا أصيلا، وبالتالي فلا مجال لتدريسه ضمن نصوص اللغة العربية، إذا فمن أجل تحقيق قدر من المساواة لا ينبغي أن تفرض علي الطالب غير المسلم نصوص دينية إسلامية. وفي الشعر والنثر العربي ما يمكن اختياره من نصوص تدرس للطلاب، ويكفي ما يدرسونه في مقررات التربية الدينية الإسلامية من نصوص دينية من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وما يدرسه الطلاب المسيحيون من نصوص من الكتاب المقدس في مادة التربية الدينية المسيحية، وإن كنت شخصيا أظن أن الأفضل أن تستبدل بمادتي التربية الدينية الإسلامية والمسيحية مادة واحدة للأخلاق تختار فيه نصوص دينية إسلامية ومسيحية تدرس لجميع الطلاب، وإن كان هذا يبدو أمرا بعيد المنال الآن. وإذا كان هذا ما يحدث في مقررات اللغة العربية بمبرر يمكن فهمه، دون التسليم به، وهو ارتباط النصوص الدينية الإسلامية باللغة العربية، فإن هذه الروح التمييزية انتقلت إلي مقررات أخري من خلال ممارسات بعض القائمين علي العملية التعليمية، وأشير هنا إلي ما نشرته «اليوم السابع» من واقعة امتحان مادة التربية الفنية في المرحلة الإعدادية في بعض مدارس البحيرة، حيث طلب الممتحن من الطلاب في سؤال التصوير رسم لوحة تعبر عن شعائر الحج إلي بيت الله الحرام في مكة، وفي سؤال الزخرفة طلب منهم لوحة بالخط العربي تتضمن عبارات دينية إسلامية، وإذا كان الموجه المسئول قد أُحيل إلي التحقيق، إلا أن ما حدث يعكس سلوكا غير مسئول من المسئول عن وضع الامتحانات، سلوك ينم عن عدم تقدير للأمانة التي يتحملها، فما شعور طالب صغير غير مسلم نطلب منه رسم شعائر دين غير دينه، فضلا عن أن هذا الصغير قد يكون جاهلا بتلك الشعائر أصلا، بما يعنيه ذلك من ظلم وعدم مساواة في الامتحان، وإذا كان الممتحن يصر علي ربط الامتحان بمناسبة دينية فلماذا لا يترك للتلميذ اختيار المناسبة التي يعبر عنها، وليختار كل تلميذ المناسبة المرتبطة بدينه وعقيدتها، لكن للأسف حتي التربية الفنية التي جاروا عليها وجعلوها مادة هامشية لم يتركوها في حالها واستخدموا امتحاناتها في هدم المواطنة.