لم يكن الرئيس المخلوع مبارك دائما فاقدا للشرعية والشعبية في الشارع المصري .. ففي بداية الثمانينيات بدأ مبارك عصره بإخراج المعارضة السياسية من المعتقلات وسمح بنشاط معقول لحرية الصحافة المعارضة (رحم الله مصطفى شردي) .. لم يتمتع مبارك يوما بكاريزما عبد الناصر أو حنكة السادات ولكن كثيرا من المصريين أحبوه فعلا وأعجبوا بنشاطه وحيويته وعفويته وهو يسأل عاملة في أحد المصانع :"إنت متجوزة .. لأ يا ريس .. طب وعندك عيال !! "ربما ضحكوا عليه وأطلقوا النكات كعادة الشعب الساخر العظيم ولكن دون أن يكرهوه .. كان المصريون يرون الرئيس بسيطا في ملبسه وحديثه يرتدي في الصيف بذلة سافاري من إنتاج مصانع المحلة ويرتدي في الصيف البذلة والكرافاتة من إنتاج ستيا ليطبق شعار (صنع في مصر) الذي كان يرفعه ويتبناه قبل أن تصبح السترات "السينيية" الفاخرة هي عنوان ملابس النخبة السياسية الحاكمة في مصر .. مبارك لم يكن دائما مكروها .. ولكن مياه كثيرة جرت في نهر الحياة في مصر وحولته إلى الرئيس المكروه ثم المخلوع .. حدث هذا بعد أن أحاطت شلة النفاق والتطبيل والتبرير لترى في كل قرار يتخذه حكمة وفي كل موقف تاريخا وفي كل عمل إلهاما من السماء .. أعداء الرئيس مبارك لم يكونوا في صفوف المعارضة الذين ينتقدون البيع المجاني للقطاع العام وإنتشار الفساد وتردي الأوضاع .. أعداء الرئيس مبارك الحقيقيون كانوا أقرب الناس إليه .. شلة المستشارين والمنافقين والإعلاميين الذين يقومون بتبرير كل شئ وحولوه من حاكم يصيب ويخطئ إلى إله لا يتسرب الخطأ بين يديه أبدا.. أعداء الرئيس مبارك الحقيقيون كانوا حتى من داخل عائلته نفسها .. جمال وسوزان الذين دفعوه إلى ملف التوريث وتركوا الأتباع والأصحاب والأصهار يرتعون في عزبة الوالد التي تحمل إسم (مصر) نفس الأعداء يتكالبون الآن على المجلس العسكري الذي ورث سلطات مبارك .. خرج جمال وسوزان من المشهد وبقيت شلة النفاق والتبرير والتطبيل عند كل قرار .. إرتكب المجلس العسكري كثيرا من الأخطاء في إدارة شؤون البلاد وليس عيبا أن يخطئ المجلس فأعضاؤه بشر لم يمارسوا السياسة من قبل بحكم مواقعهم العسكرية التي تمنعهم حتى من الإشتراك في التصويت في الإنتخابات فضلا عن الإلتحاق بأحزاب أو حركات سياسية .. ولذلك من الطبيعي أن يخطئون في بعض قراراتهم ويصيبون في بعضها .. بل وأن تتخبط بعض قراراتهم وتتناقض ولكن شلة النفاق ومستشاري السوء من أعداء المجلس العسكري مستعدون لتبرير القرار وعكسه في نفس الوقت ألغى المجلس العسكري وزارة الإعلام فصفقوا ثم أعادها فهتفوا ..إختار المجلس تعيينات المحافظين وكبار المسؤولين من نفس أجندة النظام السابق فبرروا .. أصدر قانونا معيبا يجرم التظاهر والإعتصام والإضراب فتحدثوا عن عجلة الإنتاج ، قام المجلس بالإستفتاء على ست مواد من الدستور ثم أصدر إعلانا دستوريا بستين مادة .. أطلق حوارا وطنيا لم يرض أحد من القوى الوطنية ثم استبدله بوفاق وطني لم يتوافق عليه أحد .. تعهد بإجراء الإنتخابات وتسليم السلطة بعد ستة أشهر ثم قام بتأجيل الإنتخابات البرلمانية وتطويح الإنتخابات الرئاسية إلى أجل غير معلوم .. حاكم المسؤولين الفاسدين وقتلة الثوار بمنتهى البطء فهتفوا : "يحيا العدل لا للمحاكم الإستثنائية" .. وعندما حاكم النشطاء والمتظاهرين أمام المحاكم العسكرية هتفوا :" يحيا العدل تحيا المحاكم الإستثنائية" .. وأخيرا يرتكب المجلس العسكري خطيئة كبرى بمد حالة الطوارئ والتوسع فيها (لتشمل حتى جرائم النشر والصحافة) ليعطي رسالة واضحة بأن القبضة الأمنية أصبحت الإستراتيجية القادمة لمواجهة قوى المعارضة والقوى الشعبية التي تبحث عن استكمال مسار الثورة وإقامة نظام ديمقراطي مدني منتخب .. وفي كل هذه المواقف والقرارات المختلفة نجد نفس الشلة من إعلاميين وسياسيين تمارس فن التطبيل والتبرير وكأنها تريد أن تورط المجلس العسكري في مواجهة مباشرة مع أحلام وطموحات القوى السياسية التي تبحث عن وطن ديمقراطي مدني دفع الشعب المصري ثمنا غاليا حتى يدركه يسقط أعداء المجلس العسكري .. يسقط أعداؤه الحقيقيون الذين يريدون مواجهة لن يفوز فيها المجلس العسكري حتى لو إنتصر .. يسقط الذين يبررون لقانون الطوارئ والذين يزينون لتأجيل تسليم السلطة وبقاء الحكم العسكري .. يسقط الذين لا ينتقدون المجلس العسكري إذا أخطأ والذين يقدمون له شيكا على بياض تشبه المبايعات الخائبة التي كانوا يقدمونها من قبل لمبارك .. يسقط الذين يعتبرون نقد المجلس العسكري خيانة وشباب ميدان التحرير "شوية عيال" .. والثوار "هيخربوا البلد" .. مع أن هؤلاء الثوار والشباب - في عز نقدهم للمجلس العسكري أو قراراته - هم في حقيقة الأمر الأصدقاء المخلصون الذين هتفوا يوما بصدق وإخلاص "الجيش والشعب "إيد واحدة".. و الذين يدركون ويفهمون ويؤمنون أن مليون خلاف في الرأي لا يفسد "لليد الواحدة" قضية