صديقي الفنان الرسام المبدع الجميل محسن رفعت - لمن لا يعرفه - أعتبره أحد الرسامين المميزين الذين تطل أعمالهم عليك فتكتشف من هم أصحابها، خطوطهم وألوانهم هي توقيعهم الحقيقي، محسن بأفكاره المميزة لقصص الأطفال، بألوانه المبهرة، بتفاصيله المنمنمة الدقيقة التي تؤكد أن هذا الشخص عاشق وصبور لما يبتكره من رسومات، لوحاته علي أغلفة مجلة صباح الخير تضيف بهجة وروحاً شديدة الخصوصية - ومن المؤكد أنها تزيد توزيعها أيضاً - لوحاته في سلسلة إصدارات قطر الندي التي تنشر أجمل إبداعات وكتابات للأطفال من قصص وشعر وأزجال تستحق الاقتناء. كنت محظوظة بمفاجأة محسن لي منذ أيام عندما أعطاني بعض مجلات قطر الندي لأقرا لابني يوسف، لأدربه علي حب القراءة ولأحببه في الرسم. من بين مجموعة قصص قطر الندي اختار محسن واحدة منها وفتحها ثم كتب عليها إهداء - بالطبع لم يكن الإهداء لي - إنما ليوسف ذي الخمسة عشر شهراً.. اختار محسن كتاب يحمل اسم «إحنا والوطن صحاب» وهي أشعار للمبدع الكبير لشاعر شوقي حجاب. هل كان اختياراً مقصوداً ومتعمداً؟ اعتقد.. ذكاء محسن الصامت و حسه الخاص في التعامل مع الأطفال يؤكد لي وكأنه أراد أن يرسي قيمة ويطرح معني رائعًا بهدوئه المعتاد «ومن غير فذلكة». ياااه.. أول كتاب عليه إهداء يقدم لابني اسمه «إحنا والوطن صحاب»!!!! ( صاد )... يا صبر وماله حد. ( والألف).. إنسان بجد. أما ( الحه ).. حب الوطن. ( به ).. بلد.. بنت وولد. مصر يا أغلي وطن. نيل وناس فايضين حنان. الجمع بينا اتفتن. وإحنا والوطن صحاب. إحنا والوطن صحاب. هذه الكلمات الرائعة علي أن أقرأها لابني بصدق حتي يخزنها في ذاكرته، وحين يأتي أوان نطقه بالكلام يعرف يقول كلمة وطن وكلمة صحاب، ربما يأتي هذا اليوم ولكنني أخشي أن يقول كل من الكلمتين منفصلتين، لا علاقة لهما ببعض، أخشي أن يقول «يعني إيه كلمة وطن؟»، أو يقول «أنا مش حاسس إن مصر دي وطن»، أو «اشمعني الوطن بتاعنا وحش كده؟»، أخشي ألا يذكر كلمة «صحاب إلا بالحديث عن اللهو واللعب والخروج». إن أفكاري هذه - ولنسمها خزعبلات - مرت كشريط متلاحق في مونولوج وأنا أقرأ بمنتهي السعادة أشعار شوقي حجاب ويبتسم قلبي أمام رسومات محسن رفعت. أقلب الصفحات وأقرأ لابني الذي كان مشغولاً عني وعن صوتي وعن الكتاب محاولاً الإمساك بالريموت كنترول الذي أحاول جاهدة إخفاءه، لكنني كنت أقرأ بصوت عال أغنيها وأضع لها ألحانًا من تأليفي لعلني أنجح في جذب انتباه ابني: هيلا هيلا حب هيلا هيلا بيلا ليه نغلب بعضنا ونغالب؟ حرب وكرب وضرب مقالب؟ وإحنا أساسا بني آدمين لا إحنا ديابه.. ولا إحنا تعالب!! هيلا يا دنيا الناس.. الناس. والإنسان ع العين والراس. مخلوق ذوق فوق كل أساس. أحلامه بسيطة ونبيلة.. وهيلا هيلا حب.. هيلا هيلا بيلا. كنت أضغط علي نطق بعض الكلمات والجمل وأضبط نفسي وأنا أرفع صوتي أكثر مع جملة مثل «الإنسان ع العين والراس». أخذت أقرأ وأغني بحماس وكأنها الفرصة الأخيرة لابني في أن يتعلم ويفهم معني الوطن وحبه و«صحوبيته» في هذه الدقائق القليلة قبل موعد نومه!! وربما تكون الحقيقة هي أنني كنت أذكر نفسي أو علي الأقل أحاول أن أفتعل حماساً يشعرني بأنني مازلت أحب الوطن.. نعم أنا مازلت أحب الوطن رغم أنني اعترف أنني أكرهه في نفس الوقت، غاضبة من الوطن، ومشفقة عليه وعلي ناسه، مستاءة ورافضة لما يجري في الوطن، ومتقبلة ومتكيفة في آن واحد، مشاعري ثائرة ضد هتك كرامة وحقوق الوطن ومواطنيه، ولكن أدائي هو أداء المستسلمين الراضين و«الجبناء» أحياناً، أفكر بمنطق أنني لن أترك هذا الوطن أبدا ولو علي جثتي، وفي الوقت نفسه ابحث طويلاً وأدرس بجدية مشروع قرار الابتعاد عن الوطن والبدء من جديد في مكان آخر بعيداً عنه!!! لم أكن أتخيل أن هذه الأشعار الناعمة البسيطة ستطرح في عقلي كل هذه الأفكار المعقدة، فلماذا أتأثر عندما أقرأ قصيدة يعني إيه كلمة وطن.. «واو.. دي وادي، طه... دي طيبة، أما نون دي ناس بلادي، إللي بيسابقوا الزمن!! يعني إيه كلمة وطن؟ يعني جسم وروح وراس جسم حي وروح محبة. وراس تفكر للي جيَ لأجل ييجي يتحضن!! مع بكاء ابني بسبب انزعاجه من إلحاحي في القراءة وصوتي العالي وربما خوفاً من أدائي الغنائي أدركت أنني «زودتها» وتماديت في هذا الحماس الوطني. وقلت له بدعابة وما أكثر الدعابات التلقائية التي قد تتحول إلي حكمة يوماً ما وربما تتناقلها الأجيال: «خلاص يا حبيبي ما تعيطش، لو لك نصيب إنك تصاحب الوطن ح يحصل، مالكش نصيب يبقي.. آديني عملت إللي علي!!! أغلقت الكتاب ويدور في راسي مشهد - أتمني من الله ألا يتحقق - أخشي أن يأتي يوم يخرج فيه يوسف صندوق ذكريات طفولته فأذكره بهدية «أنكل محسن فيقرأ الإهداء ويقلب في صفحات الكتاب فيضحك بمرارة ويقول: «إزاي إحنا والوطن صحاب...إزاي نصاحب إللي يعادينا؟»!!!