بعد 6 أشهر من إسقاط رأس النظام السياسي، تمكن النظام العسكري الانتقالي من السيطرة على السلطة، مستخدما سيناريو قديم للغاية. ولكن توق المصريين للحرية والعدالة والديمقراطية أوقعهم في فخ الركون إلى قوة العسكريين والثقة العمياء فيهم. لقد نسي المصريون، أو تجاهلوا، أن النظام العسكري قفز على السلطة ضاربا بأي خطوات دستورية لنقل السلطة وفقا للدستور. وكان كل ذلك بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار ووحدة الشعب والبلاد ولكي لا تقع حرب أهلية أو طائفية. وفي الوقت الذي اعتبر فيه الكثيرون أن ما حدث في مصر "ثورة"، رأوا هم أنفسهم أنه يمكن التغاضي عن بعض الإجراءات الثورية (القطيعة الكاملة مع المنظومة السابقة) من أجل لم الشمل وجمع الصفوف لبناء مصر جديدة تحت رعاية نظام عسكري أقسم يقينا أنه سيسلم الدولة لسلطة مدنية. فمنذ متى سلم العسكريون بلادهم لسلطات مدنية؟! (تجربة سوار الذهب تؤكد ذلك باعتبارها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة). ونحن على يقين من أن أولويات الجيوش (هذا إذا كان النظام العسكري يمثل الجيش المصري) ألا يسلم بلاده إلى الأعداء. أما الحفاظ على الدستور والمجتمع، والدولة ككل، فهو مسؤولية المؤسسات المدنية. مع سقوط رأس النظام السياسي انهارت فكرة أن يكون مبارك هو مصر كما رسخوا في وعي عدة أجيال. وأظهر الحراك السياسي في مصر ما بعد 25 يناير أن الإخوان المسلمين ومن لف لفهم ليسوا الإسلام ولن يكونوا. غير أن النظام العسكري الذي لم يستمد شرعيته من الثورة ومن ضحوا فيها، بشهادة بعض عناصره، وقام بالقفز على السلطة (استمد سلطته فيما بعد في 19 مارس عبر استفتاء أقرب إلى المؤامرة) استغل الثغرات التي وقع فيها أبناء 25 يناير وبدأ يوسع منها استعدادا لخلط الأوراق. فتارة هو الجيش المصري، وتارة أخرى هو مصر، وتارة ثالثة هو الذي كان يعد العدة لمواجهة مبارك في حال إصراره على التوريث، وكأن كل ما حدث كان فقط ضد التوريث. وبالتالي على النظام العسكري أن يكشف عن وجهه الحقيقي ورغبته في السلطة السياسية ويدع الجيش المصري يمارس مهامه المنوط بها لحماية حدود البلاد وأراضيها. لقد أدى التواطؤ مع النفس ومع الآخرين إلى ضرب الثورة في جوهرها ومبتغاها وفلسفتها. فلا أحد يعرف إلى الآن، هل ما حدث منذ 25 يناير ثورة، أم انقلاب عسكري استخدم ثورة الشعب ومالبث أن انقلب عليها وعلى من قاموا بها وشاركوا فيها؟ لقد كُتِبَت عشرات ومئات المقالات التحليلية الهامة عن طبيعة التفكير العسكري والتجارب المصرية المتتالية مع حكم العسكريين. وكُتِبَت أخرى عن التحالفات المتوقعة بين النظام العسكري وقوى سياسية واجتماعية بعينها. إضافة إلى تحليلات وتفسيرات أكدت أن النظام العسكري في مصر لن يترك الثورة تنفذ أهدافها تحت حجج ودعاوي ومزاعم كثيرة. وأنه بصدد اختيارات وتحالفات للحصول على أكبر قدر من كعكة الثورة المخضبة بدماء الشباب. والآن يلقي النظام العسكري بإحدى ورقاته الرابحة بعد أن استغل عدة عناصر في غاية الخطورة: هرولة الإخوان والسلفيين نحو السلطة، تقاعس الأحزاب العتيقة وجلوسها كالضباع في انتظار أي فتات سياسي، مؤامرة تنظيم أمن الدولة التي جرت وما زالت تجري تحت سمع وبصر النظام العسكري، إمساكه بزمام الأمور الأمنية ليتدخل في الوقت الذي يريده وليس في الوقت الذي يحتاجه الوضع الأمني، الوضع الاقتصادي المترنح الذي خلفه نظام حسني مبارك كورقة ضغط لإدانة الثورة وأبناء 25 يناير في حال إصرارهم على تنفيذ أهداف الثورة، بقاء المنظومة الإدارية المتهالكة والرجعية كما هي، تهافت الصفوة المأجورة للحصول على مناصب ومواقع في مؤسسات على رأسها الإعلام والثقافة إما بسذاجة (من أجل إنقاذ مصر والحفاظ على مكتسبات الثورة ودفع عجلة الإنتاج والتغيير من الداخل) أو انتهازية (من أجل تصفية حسابات ضيقة أو تحقيق مكاسب رخيصة، فغالبية من يتواجدون على رأس المؤسسات الإعلامية والثقافية والتنويرية عموما كانوا من أبناء النظام السابق – الحالي. وكل ما في الأمر أنهم تبادلوا الأماكن والمناصب). الآن يلقي النظام العسكري بورقة رابحة وخطيرة بعد إثارة التصدعات والانقسامات والمخاوف والرعب واستخدام سذاجة البعض وانتهازية البعض الآخر. وهذه الورقة هي انقلاب بكل المعايير على ما قدمه من تطمينات وضوء أخضر للإخوان والسلفيين. فالنظام العسكري الآن يجس نبض المصريين بشأن الإبقاء على مساحة كبيرة له في أي نظام سياسي للدولة فيما بعد. البعض فسر ذلك بأنه على غرار النموذج التركي. ولكن النموذج التركي فيه فصل كامل للدين عن الدولة. هنا يكمن جوهر التناقض بين النظام العسكري وبين الإخوان والسلفيين. فهل سيوافق الإخوان المسلمون والسلفيون على مساحة للنظام العسكري في الدستور المصري الجديد مقابل فصل الدين عن الدولة؟ قد يحدث ذلك بشرط أن يقف نفس هذا النظام وراء الإخوان والسلفيين لتمكينهم من المجتمع ومؤسساته. فهل سيقدم النظام العسكري على مثل هذه الخطوة؟ بدون هذه الخطوة سيقع صدام هائل بين الطرفين! إن تركيز النظام العسكري على نصيبه في الدستور وفي السلطة السياسية أوقعه في تناقضات وتواطؤات وأخطاء كلاسيكية للغاية، ما يؤكد أنه امتداد لنفس عقلية النظام السابق ويعمل بكل الطرق على إعاده إنتاج هذا النظام. كما أن تهافت الإخوان والسلفيين على السلطة أظهر وجههما الحقيقي للمصريين ودفع بهما إلى التحالف مع النظام العسكري ومعاداة كل القوى السياسية والمشاركة في إجهاض الثورة. هكذا تظهر تدريجيا أسباب التباطؤ المثير للشكوك طوال الأشهر الستة الماضية. وهكذا تظهر أيضا أسباب الهرولة المريبة حاليا في جس نبض الشارع وإطلاق تصريحات وهمسات وحملات ملتوية لوضع دستور جديد وإقرار مبادئ حاكمة أو فوق دستورية وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ورفض أي رقابة دولية على أي شيء. وليس من المستبعد أن تتحول تلك الهرولة المريبة إلى تباطؤ جديد مثير لعلامات استفهام كثيرة! النظام العسكري في مصر نجح في تفكيك وتفتيت الساحة السياسية المصرية خلال ستة أشهر باستخدام الإخوان والسلفيين (بالتحالف تارة، وبالتخويف منهم تارة أخرى)، والمنظومة الإدارية المترهلة (التابعة كليا للنظام السابق – الحالي)، وتنظيم أمن الدولة (الذي أعيد إنتاجه في أشكال وممارسات مختلفة: البلطجة، والوقيعة بين المصريين، وأعمال التخريب، والمحاكمات التعسفية، وإثارة الرعب في نفوس شباب الثورة وإذلالهم....). كل ذلك أبعد الناس عن الأهداف الحقيقية للثورة وأدخلهم في دهاليز التحالفات والتواطؤات، وورط جزء كبيرا من النخبة إما بسذاجة أو بانتهازية.